آل البيـت عليهم السلام في شعـر دعبل الخزاعي قراءة فنية جديدة
واحد من أولئك الشعراء الأفذاذ الذين يتطلب منا دراستهم دراسة تفصيلية واعية جديدة ناقدة.ولا أريد هنا في هذا البحث أن اصف شعر الخزاعي من الخارج وانزع عليه أراء الآخرين الجاهزة غير الدقيقة, بل سأقوم بإجراء قراءة جديدة لقصائده والتجوال بين أبياتها لمعرفة مابين السطور وما يربط ذلك من قنوات وروابط اتصال ورسائل التعبير اللغوي والدلالي المشبوب بشحنات من العواطف البليغة الصادقة.ولغرض تحديد ثوابت الدراسة لابد لنا من تصنيف القصائد وفرز أغراضها والاحاطة بأسوار حدودها.
تمهـيـد:
دأبت في كتابتي أن اختار الموضوع الجديد الأنسب البكر ولا ارغب في اجترار النتائج والمعلومات المطروحة لئلا أكون تابعاً تقليدياً يعتاش على فتات الآخرين. ورصد ومحاكاة أفكارهم فالقراءة المتأملة الدقيقة الفاحصة لها اثر صائب في الوصول إلى خيوط جديدة للمعرفة ونوافذ هامة على الموضوع المطلوب دراسته.
ودعبل بن علي الخزاعي واحد من أولئك الشعراء الأفذاذ الذين يتطلب منا دراستهم دراسة تفصيلية واعية جديدة ناقدة.
ولا أريد هنا في هذا البحث أن اصف شعر الخزاعي من الخارج وانزع عليه أراء الآخرين الجاهزة غير الدقيقة, بل سأقوم بإجراء قراءة جديدة لقصائده والتجوال بين أبياتها لمعرفة مابين السطور وما يربط ذلك من قنوات وروابط اتصال ورسائل التعبير اللغوي والدلالي المشبوب بشحنات من العواطف البليغة الصادقة.
ولغرض تحديد ثوابت الدراسة لابد لنا من تصنيف القصائد وفرز أغراضها والاحاطة بأسوار حدودها.
وما دام ابن النديم قد ذكر في فهرسته بان الشاعر (دعبل) ديوان شعر جله في أهل البيت(عليهم السلام). فحينئذ سنمد الخطى بهذا الاتجاه لمعرفة حجم ذلك القول وبيان تفاصيله في النصوص التي بين أيدينا. ولان هذا الشاعر الكبير لم يأخذ حقه في مجمل عملية البحث, ولم تعطه الدراسة استحقاقه بالدرس والاستفاضة, قررت أن اكتب هذا البحث الموجز ليكون باكورة عمل مستفيض أخر, وبداية لدراسات تفصيلية.
يتذكـّر (دعبل) أيام الصبابة والشباب حين كان يرفل في أثواب لـّذاته إذ كان غصنه رطيباً وهو يصبو إلى جاراته, في هذه اللحظات الجميلة من الذكريات التي تمر بخاطر لا شريطاً سيمياً مصوراً, تتهافت على ذهنه أفكار العقلانية والتمييز, فينكر على نفسه ذكريات ذلك الزمان الذي مضى مطلبه وتقطعت حبائله وعاد إلى نفسه يطلب منها الكف عن تكرار سريان ذلك الشريط المحفوف بالجهالات, وطالباً من قريحته الفياضة أن تتوجه بكل ثقلها لمدح أهل البيت (عليهم السلام)الهداة بني الكرامات إذا قال([1]):
سَـقــــياً ورَعــــياً لأيـّاِم الصَّبــابات
أيـّـــامَ أرفـــلُ فــي أثــوابِ لـــذاتـي
أيامَ غـُصني رطيــبٌ, من لدونتـهِ
أصبَُــو إلى غيـِر جــاراتٍ وكنــاتِ
دّع عـنكَ ذكـر زمان ٍ فاتَ مطـلــبُهُ
وأقذِف برجلك عَن متن الجهالاتِ
وأقصـِد بكُـلَّ مديــح ٍ أنت قائلــــهُ
نحـوَ الهُـــداة ِ بنـي بيـتِ الكـرامــاتِ
والبيت الرابع في المقطوعة هو المعوّل عليه في النصّ, وهو بيت القصيد الذي عليه تدور طاولة البحث, حيث أهل البيت(عليهم السلام) هم هداة الأمة بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم), وهم حملة سنّته الحقيقيون بلا منازع, وأهل الكرامات على الأرض.
وفي نص أخر يرفض فيه مشاغل اللذات والنفاّثات, ويتوجه إلى حب آل بيت المصطفى محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)ووصّيه المرتضى(عليه السلام), ليصبح هذا الحب شغله الشاغل ونشيده العذب والحاصل الأنفع لأخرته من كل شيء, ولكي يفرغ هذا الحب المنقطع النظير في قصائده. أن حبه لآل البيت يسير في دمائه, ويتحصن في شغاف قلبه. وبهذا كانت صورة قلبه المتحصن بحب آل البيت وقد نزع منه هوى اللذات, وكأنه ينزع ثوباً خرقاً بآخر متشيب نافع. عاملاً بهداية الآية ﴿أن الحسناتِ يُذهبنَ السيئاتِ﴾([2]), وهذا التبدل يستفاد من الآية الكريمة: ﴿ويدرءون بالحسنةِ السيئةَ أولئكَ لهم عُقبَى الدّار﴾([3]).
إذ قال ([4]):
في حُـبَّ آل المصـطفى ووصيــــَّه
شُغلٌ عن اللـَّـذات والقيناتِ
أنَّ النـّشيَـَد بُحَّــــــــب آل محـمــد
أزكَى وأنفعُ لِي من القــُنياتِ
فأحشُ القصَيد بهـِم وفَرَّغ فيهـُم
قلباً حَشوَت هـَـواهُ باللـّـــَذاتِ
وأقطـَع حِباله مَن يُريـُد سِواهـمُ
فـي حُبَّهِ تحـــلل بــــدار نجــــَـاة ِ
وفي هذه الأبيات يستخدم الشاعر ميزانه السويّ الملتزم بكفتين ترجح أحداهما على الأخرى, فالراجحة حب آل المصطفى ووصّيه بما فيها من نزوع إيماني وأريج زكي ونفع أخروي, في حين تنكمش الكفة التي تراهن على الدرب الدّنيويّ المكفول باللذات المؤقتة والناتج الجهنمي.
وفي بيتين من نص أخر يمتطي الشاعر لسانه البليغ ليرسم صورة ملونة بديعة من المجاز البياني. حيث تحدث عن الظلم والجور الذي لحق بال احمد وما المّ بهم من قهر وتشديَد ونفي, من دون جناية يعاقبون عليها سوى أنهم المحافظون على دين هذه الأمة ودعاته وناصريه إذ قال([5]):
لا أضحكَ اللهُ سنَّ الدَّهـر أن ضَحِكَت
وآل أحمدَ مظلُومونَ قد قهُــرُوا
مُشـــَّردوَن نـُفـوا عن عُـــقِر دارهــمُ
كأنهَّـم قد جنـَو ما ليـَس يُغتـــفرُ
وقد صور لنا العصابة الباغية التي ظلمت أهل البيت(عليهم السلام) وقهرتهم وشردتهم ونفتهم عن ديارهم ضاحكة مستبشرة, فاغرة الفم وبارزة الأسنان, فالشاعر يلعن الأيام التي دفعت بتلك العصابة, ويدعو على الدهر الذي جاء بها لتفتك بالطّهر الطاهر المطهّر. والشاعر الخزاعي يصورها بهيئة الحيوان المفترس للدهر, ثم جعل للدهر أسنانا, وهذا من التجسيم والتشخيص البلاغي. وقد تمكن الشاعر من اختيار ألفاظه وعباراته حين قال: (لا اضحك الله سن الدهر) فجعل نصّه خصباً متعدد الرؤى, وأعطى لنصّه ايجابية فنية ملموسة من خلال دلالة وإيحاء المفردة المختارة.
وله قصيدة رائية يتحدث في مطلعها عن أسف جارته ورأيها في الشيب, وفي ثانيها عن رأيها في العودة للصَّبا وقد شابت ذوائبها وهي تجري في حلبة الكبر, وفي ثالثها يخاطب تلك الجارة ويخبرها بان شيب رأسه قد دفع عنه ذكر الغواني وأرضاه بما جرى عليه من الأقدار.
ثم يدخل إلى حيّز القصيدة وجوّها العام من خلال ركائز واسعة مترابطة بقنوات فكرية وسياسية ملتزمة, يقارن فيها بين الخاص والعام, القريب الشخصي والبعيد المرتبط بحركة الأمة وديمومتها وأئمتها من أهل البيت الكرام.
فيراهن في البيت الرابع على خيار الآخرة رافضاً الركون للدنيا وزخرفها إذ قال([6]):
لو كنتُ أركنُ للدُنيا وزينتها إذن بكيتُ على الماضِينَ من نفري
وهو الإنسان الفاقد المتصدع بأهله وولده نتيجة داعي المنية, وهذا ما جاء في الأبيات من الخامس حتى الثامن من القصيدة([7]), وهذا الأمر متعلق بأحاسيسه وبحزنه على أهل بيته, جاعلاً ذلك مقدمة للحزن العام والحقيقي لأحزان الدين الحنيف, وليدخل من خلاله إلى بؤرة الحدث المؤلم المتمثل بقتل أهل بيت رسول الله بحادثة الطّف وقد قُطعّت الرؤوس والأجساد وعُفَّرت بالتراب إذ قال:
لولا تشَاغلُ نفسي بالألُي سلــفُوا
من أهل ِ بَيـتِ رَسُـول الله لم أقـــر ِ
وفي مواليـــكَ للمَحزون مشــــغلة
من أنَ تَبيـتِ لمفـقـــودٍ عَـلى أثـــــر ِ
كم من ذِراع ٍ لهُم بألـــطفَّ بائنــة
وعارضٍ, من صَعيد التـرُب. مُنعفِر
إلى أخر القصيدة الواقعة في أربعة وعشرين بيتاً, حيث يذكر مقتل الحسين(عليه السلام)وأهله وأصحابه ويخاطب بني أمية (امة السوء) بسوء فعلتهم وتنكيلهم بأهل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)من قتل واسر وإحراق ونهب. ثم يذكر عذر أبناء حرب ومروان وأسرتهم بني مَعِيط وما اضمروه من حقد وغيظ وكفر على الإسلام ورسالته ودعاته. ولا يرى عذراً لبني العبّاس:
أرى أُمـية معذورين أن قتَــــَلـُوا
ولا أرى لبني العبَّـاس من عُـذُر ِ
أبناءُ حربٍ ومروان ٍ وأسرتهم
بنو معيـط ٍ ولاة الحقـــِد والوعــر ِ
ويختم قصيدته:
هيهاتَ كلّ أمرئٍ رهنٌ بما كسَبت له يداهُ, فخذ ما شئت أو فذر.([8])
مستفيداً من الآية القرآنية الحكيمة: ﴿كُلُّ امرئ بما كسب رهين﴾... ([9])
وللشاعر بيتان من فائية من مجزوء الكامل, يقول فيهما:...([10])
فلو أن أيديَـــكم تُمُّــــدّ إلــــى أناء لأكـــــفا
وثبَ الزمان بــكمُ فشــــــــــــــــتت منـكمُ ما ألــفا
فالشاعر في هذا يميل إلى أن الله تعالى قد كتب على أهل بيت النبوة ومهبط الرسالة قد كتب عليهم طريق الجهاد, ولا بد لكل واحد منهم أن قد مشاها مادامت قد كتبت عليه.
وعن ممتلكات أهل البيت المهدورة, أشار دعبل ببيته إلى (فدك) قائلاً([11]) من قصيدة:
أصَبحَ وجهُ الزَّمان قد ضحَكا بردَّ مأمـــون هاشــم ٍ فدكا
و(فدك)([12]) بستان لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)انحله ابنته فاطمة الزهراء(عليها السلام) وقد سحبت منها بعد وفاته, وقد اقطعها الخليفة عثمان بن عفان لمروان بن الحكم وبقيت تتداو لها آل مروان حتى خلافة عمر بن عبدالعزيز الذي أعادها إلى آل البيت(عليهم السلام).
ولما مات عمر عاد الحقد ليستولي عليها مرة أخرى, وبقيت هكذا حتى سنة (210 هـ) حيث أمر المأمون العباسي بردها إلى أهلها من ولد فاطمة وكتب إلى عامله على المدينة بذلك ولما جاء المتوكل سلبها مرة ثالثة واقطعها عبدالله بن عمر البازيار.
فالشاعر في هذا البيت قد جسم وشخص الزمان, وجعل له وجهاً ضاحكاً مستبشراً بردّ الخليفة المأمون ذلك البستان إلى أصحابه الشرعيين. وسرعان ما انتهك وسلب مرة أخرى على يد المتوكل العباسي, ولا نريد أن ندخل في تلك المساجلات والأحداث.
وللشاعر دعبل بيتان في شفاعة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت البررة, حيث يعترف بشفاعتهم له يوم القيامة, إذ قال([13]):
شفيعي في القيامةِ عند ربّي محّـــَمدُ والوصيّ مع البتوُل ِ
وسِبـطا احمـد ٍ وبنـُو بـنـيــهِ أوُلئــك سادَتي آل الرسُول ِ
وإذا ما فارق دعبل ابنه احمد بالموت, شعر بالحزن عليه وكادت عيناه تسبلان الدموع لولا التأسي بالنبي وأهله, بما جعله يكفكف دمعه لأجلهم على الرغم من أن ابنه يشكل نفسه وحبه, ولكن الخزاعي قد وضع حبّ آل البيت في قلبه حيث مشاعره ولواعجه إذ قال في البيتين الثالث والرابع من قصيدته بعد رثاء ابنه
ولولا التأسّي بالنبـّي وأهلــِه لأسبلَ من عَيني عليه شُـــئـــــونُ
هُو النفسُ, ألا أنَّ آل محمـــدٍ لهَم دون نفسي فــي الفـُؤاد ِ كمينُ..([14])
وفي البيت الخامس, ذكر مقاربة العلاقة بين ارث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار وملاحقة الغواة الضالين لهم, فهم(عليهم السلام)حماة الدين وورثة الأرض وأهل الحق, وهذا من دواعي الانقضاض عليهم والتخلص منهم بعيداً عن صوتهم الإيماني الهادر. إذا قال:([15])
أضَّر بهم أرثُ النبيّ فأصبحوا يُساهمُ فيهم ميتة ومنونُ
وأشار في البيت السادس إلى ذئاب الأمويين قائلاً([16]):
دَعتهم ذئابٌ من أميّة وأنتحت عليهم دراكاً أزمة وسنون
ومن الأفكار التي ذكرها في القصيدة: ظلم العباسيين, وما عانوه في الدين والمؤمنين وما نشروه من غواية ومجون إذ قال:
وعاثت بنو العبّاس في الَّديَّن عَـيثةًً تحكـَّم فـــِيه ظـــالمٌ وظنيــــنُ
وسمَّوا رشيداً ليس فيهم لرشــــِده ِ وها ذاك مأمونٌ وذاك أميـــنُ
فما قُبلت بالرّشـــد منهم رعـــــاية ٌ ولا لـولَّي بالأمــــانة ديـــــــنُ
رشيدهـم غـــاو ٍ, وطفـــلاهُ بعــدَهُ لهذا رزايا دُون ذاك مجـــــونُ ([17])
ثم يختم قصيدته بستة أبيات في حق الإمام الرضا(عليه السلام), وهو ما سنذكره في محله من هذا البحث.
كما أشار هذا الشاعر إلى مسالة اضطهاد الموالين لآل البيت, ويقارن ذلك بما هو عليه عند اليهود والنصارى, إذ قال([18]):
إن اليــــهُـود بحبـَّــــها لنبيَّــــها أمنت بَوائـِـقَ دهــرها الخـــــوَّان ِ
وكذا النصارَى حبهمُ لنبيهم يمشـونَ زهــواً في قـُرى نجـــــران ِ
والمسلمون بحَّــب آل نبيهـــم يُرمـَـون فـي الأفـــــاق ِ بالنيـران ِ
فدواهي الدهر عن اليهود لايمكن أن ينال الاضطهاد الموالين لآل نبيهم وكذلك النصارى الذين يمشون بزهوٍ في مخاليف اليمن من قرى نجران ولكن حب آل بيت محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) يعد جرماً عند أهل الضلالة من المسلمين.
أن التأسي بمعاناة آل البيت للمحن والمآسي من اولويات مشاعر الخزاعي, لأنه يسكَّن غليل أحزانه ويهوَّن عليه عزاءه, إذ قال([19]):
تَعَـزَّ فكـــم لـك من أســـــوَة ٍ تُسكَّنُ عنك غليــلَ الحــَــزن
إذا عظمت محنة عن عـــــزاء ٍ فَعادل بها صَلبَ زيــدٍ تَهــُـن
وأعظم من ذاك قتلُ الوصيّ وذبـحُ الحسَين وسَمّ الحَــسَن
وقال في آل البيت الكرام أيضاً:
بابي وأمي سبعة أحببتـهم لله لعطيّـهٍ أعـطـاهـــــــا
بابي النبيّ محمد ووصّيهُ والطيبانِ وبنتُه وآبناها.([20])
ومهما كان عدد الذين أحبهم الشاعر, خمسة أم سبعة, فهو قد أحبهم لوجه الله تعالى لا لعطية أو طمع مادي, وفداهم بابيه وأمه, حيث فدى بابيه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ووصّيه على المختار وبنته الزهراء وابنيها الحسن والحسين(عليهم السلام).
وأجدني تاركاً ما أصاب آل البيت من كوارث ورزايا تمخضت في القصيدة التائية الخالدة لدعبل في نهاية المطاف وفي الفصل الأخير من هذا البحث. وسأتناول شخصيات آل البيت(عليهم السلام) التي ذكرها هذا الشاعر الفحل:
1ـ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):
حيث مدحه دعبل في العديد من قصائده. ومن وجوه مختلفة فذكر خصائصه: الطهر المطهر, الزكي, السريع إلى الخيرات والبركات, أي انه أول القوم إسلاماً وأثبتهم إيماناً وأبسطهم كفاً وأشجعهم قلباً وأصدقهم أخا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأعظمهم مجداً في العلم والحكم, صهر المصطفى (زوج البتول) ووصيه. إذ قال.([21]):
ألا انـَّـُـه طـُـــــــهـر زكـــــّيٌ مُطــــــــهـَّـر سريعُ إلى الخـــــــيرات والبركاتِ
غلاماً وكهلاً خيـــرُ كهــل ٍ ويافــــــــع وأبسطـُهم كــفاً إلى الـــــكُرُبــاتِ
وأشجـعُـــهم قلبــاً وأصدقــــهُم أخــاً وأعظمهُم في المجـــد والقرُبــــاتِ
أخو المصطــفى بل صهرُهُ ووصيـــــّتهُ من القــوم والسّتـــارُ للعَــــوراتِ
كهارونَ من مُوسَى على رغم ِمعشر سِفال ٍ لِـئام ٍ شقـَّق ِ البشـَــراتِ
فقال:
ألا من كنتُ مَولاه ُمنكــــــــمُ فهـــذا لهُ مَولَـــى بُعيدَ وفـــــاتي
أخي ووصِّيي وآبنُ عمّي ووارثي وقاضي دُيوني من جَميع عداتي
فتجد البلاغة الفنية متجسدة في النص فالبديع الرفيع ينساب فيه انسياباً مما أضفى عليه شيئاً من الزخرفة والتلوين بين طباق وجناس فمن الطباق: (غلاماً وكهلاً) فالغلام والكهل متضادان في المعنى ويتعاونان في إيضاح الخير في شخصية المقصود بالمدح, كما أن هنالك العظيم المجيد في قبالة السافل واللئيم. وهذا من المحسنات المعنوية.
وأما الحالة الأخرى التي وردت فيها كلمات (طُهرٌ, مُطهَّر), (البركات, الكُرُبات), (الكًُرُبات, القُرُبات). فترى ما يجري من تبّدل في مواقع حروف (ط, هـ, ر) و (ب, ر, ك, ا, ت). في حين ترى في المثال الثالث (كربات وقربات) أن الاختلاف قد جرى في حرف واحد هو الكاف الذي يقابله القاف.
إن هذا التشابه الحرفي من الجناس الجميل الذي أدى إلى نوع من النغم الموحي لتيسير السمع وتسهيل النطق, بعفوية طبعية. وهذا من المحسنات اللفظية.
وهنالك الترادف اللغوي في كلمتي (قوم, ومعشر) وهي من الأمور الأسلوبية. وهنالك اقتباس في النص من الحديث الشريف.
أ. في البيت الخامس: كهارون من موسى.... وهو اقتباس من حديث المنزلة الوارد " عن سعد بن أبي وقاص (رض) أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إلى تبوك واستخلف علياً (رض) فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء, فقال ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه ليس نبي بعدي "..([22]), ونص الحديث متأثر ببعض من آيات سورة طه..([23]).
ب. أما البيتان السادس والسابع: ففيهما اقتباس واضح من حديث الغدير وقرار التنصيب في حجة الوداع, إذ قال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): ".... مَن كنت مولاه فهذا علي مولاه, اللهم وال ِ مَن والاه وعادَ من عاداه.... "..([24]).
وقال في قصيدته الدالية من الكامل مشيراً في مقدمتها إلى بيعة التنصيب من قبل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) للوصي والولي الذي نصر الرسول وكانت لشجاعته في الحروب معاني, وهو الموحد الذي لم يسجد لصنم قط, ونام في فراش النبي عند الهجرة من مكة للمدينة واقياً بنفسه كيد قريش. إذ قال: مشيراً إلى بعض خصائص الإمام(عليه السلام), ومنها:
ســـــــــقـياً لبيعـة أحمــــدٍ ووصَّـــــــيه أعــــني الإمام وليَّنا المحسـودا
أعنـــــــــي الذي نصَــــر النبــيَّ محمداً قبـلَ البريــــَّة ناشــئاً وَوليــــدا
أعنى الذي كشف الكرُوب ولم يكُن في الحرب عند لقائها رعديدا..([25])
ومما جاء في قصيدة دالية أخرى ومن الكامل أيضاً مشيراً فيها إلى نطق القران بولاية علي(عليه السلام)وانه خير الناس بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم), وكيف تصدق المختار بخاتمه وهو في الصلاة وكيف اختصه الله تعالى في التنزيل. إذ قال دعبل:
طق القرآنُ بفِضل آل محـمــــــدٍ وولايــــة لعلَّيـــهم لم تُجـحـَـــد ِ
ولاية المختار مَن خيـــرُ الــورَى بــعد الَّنبـي الصـــــادق المتــــودَّد ِ
ذ جـَــاءهُ المسكيـنُ حـالَ صلاتهِ فامتـــدَّ طـوعــاً بالـذَّراع وباليـــد ِ
تنــاولَ المسكيــنُ منــه خــــــاتماً هبة الكريم الأجود ِ بن الأجـود ِ
اختصَّه الرَّحمنُ فـَـي تنـزيــــلـه مَن حاز مثلَ فخارِهِ فليَعـــــــدُد ِ.. ([26])
وفي الأبيات اقتباس من الآية القرآنية الكريمة " ﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ﴾...([27])
حيث نزلت أية الولاية هذه في أمير المؤمنين (عليه السلام)وهو راكع...([28]).
وقد اعترف هذا الشاعر بهذه الولاية ابتداءاً من الله تعالى. ومن رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن وصي الرسول(عليه السلام), إذ قال: جاعلاً نفسه مكان الغائب من النص من المتسرح:
الله مولاهُ والنبيُّ ومِن بَعِدهما فالوصيُّ مولاهُ..([29])
ومن فضائل الإمام علي(عليه السلام) انه شارك مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في قلع وتكسير الأصنام التي فوق الكعبة, حيث صعد على منكبي الرسول ليصعد على البيت الحرام الذي عليه التمثال. إذ قال الخزاعي من الطويل:
عليُّ رَقى ِ كِتفَ الَّنبيّ محمـــــدٍ فهل كسَّرَ الأصنامَ خَلقٌ سوى علي..([30])
ومما قاله الخزاعي في مدح الإمام علي(عليه السلام) في منعه الأعداء من الوصول لحوض النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة, إذ قال من المتقارب:
يذودُ عن الحوض أعداءهُ فكـــم من لَعيـن ٍ طريـدٍ وكــم
فمِن ناكثينَ ومن قاسطينَ ومن مارقيــنَ ومِن مُجـتِــــــرمَّ.([31])
وفي هذا النص اقتباس من حديث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
(يا علي معك يوم القيامة عصا من عصي الجنّة تذود بها المنافقين عن الحوض).([32])
وقال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): (انك ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين).([33])
وهذه الإحداث سجلها هذا الشاعر في شعره, فأشار إلى الناكثين من أمثال طلحة والزبير ومن تبعهما يوم الجمل, كما أشار إلى القاسطين المتمثلين بمعاوية ومن كان معه في حرب صفين, وكذلك أشار إلى المارقين من الخوارج في النهروان.
وفي نص أخر للخزاعي, نجد مدحاً للإمام علي(عليه السلام)يائياً من الوافر, نختار منه بعض الأبيات:
ســــلامٌ بالغــداة وبالعـشـــــيَّ على جَدَثٍ باكناف الغـَـــــرىَّ
وصُــيّ محمدٍ, بأبي وأمــّـــــــي وأكرمُ مَن مشىَ بعدَ النــــــــبيَّ
وأوّلُ من يُجيب إلى بـــــــــراز ٍ إذا زاغ الكميُّ عن الكــــــميَّ
لئِن حجَّوا إلى البـلدِ القصـــيّ فحجّي – ما حييتُ – إلى عليَّ..([34])
إن الشاعر استخدم في نصه لغة جميلة بدأها بالسلام الملوّن بالمحسَّن المعنوي (الغداة والعشيّ) على قبر علي. وحقيقة الأمر ان السلام ليس موجهاً للقبر وإنما لصاحب القبر.
وهذا المجاز البياني العقلي قوامه أسناد المعنى إلى غير صاحبه الأصلي, ولكن مفردة الغريّ أعطت التوضيح اللازم لصاحب القبر.
وان عبارة (وصي محمد) و (أكرم من مشى بعد النبي) و (أول من أجاب إلى المبارزة) في يوم الخندق, فهذه كناية عن الإمام علي(عليه السلام).
وهنالك صورة زيغان (الكميّ عن الكميّ) من الجناس البديعي المذكور.
2-الإمام الحسين(عليه السلام):
بكَى الشاعرُ دعبل الإمامَ الحسين(عليه السلام) في تائية من الطويل. والقصيدة خطاب رثاءٍ موجه إلى النفس, وتساؤل عن العبرات التي أسبلها, ومقاساته لشدة الزفرات بما مر على آل البيت الكرام في كربلاء مما جعل صدره يضيق بالحسرات. ويعود ليطالب نفسه بالبكاء المستمر بسبب تلك النوائب والدواهي والنكبات والمصائب لكي يبقى مصابهم عالقاً في ذهنه في ذلك اليوم العاشورائي الذي قضوا فيه النجبأ عطاشى وهم قرب شاطئ الفرات بعد أن منعهم من الاقتراب منه جيش عبيد الله بن زياد الذي قاده عمر بن سعد بن أبي وقاص وشمر بن ذي الجوشن بإيعاز من يزيد بن معاوية, وكيف استشهد الحسين(عليه السلام) وبقي هو وأبناؤه وأصحابه طريحي الفلوات ظلماً وعدواناً. وهو يؤكد بأنه لا يمكن أن ينسى ظامئاً قتيلاً مظلوماً والنهر يطفح بالماء قربه. والشاعر في قصيدته يوجه دعاءً على ابن سعد اللعين وكيف سيلقى عذاب النار واللعنات مدى الدهر. ويجاهر بأنه سيبقى في قنوت دائم صباحاً ومساءاً في لعن تلك العصابة التي قاتلت الحسين وشايعت وتابعت على قتله وإنهم على ضلال وكفر, وقد أضاعوا قول الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) في آل بيته البررة(عليهم السلام), إذ قال دعبل([35]):
أأسبلـــتَ دمَــــــــع الـــعين بالعبَـــرات ِ وبتَّ تقاسي شـــدَّة الزفـــــــراتِ ؟
وتبكـــــــــي على أثـــــار آل محـــــمــــدٍ وقد ضاق منك الصَّدرُ بالحَسَراتِ
ألا فابكِـــهم حـــقاً وأجــــر علَيهــــــمُ عُيوناً لريـــب الدَّهــر مُنسَكِــــبات ِ
ولا تنسَ في يوم الطفـُو ف مُصابَهُــــم بداهـــــية ٍ مِن أعـــظــم الَّنكــــبات ِ
سَقــَى اللهُ أجداثـاً على طــَّف كربـــلا مَرابـعَ أمطـــــــــار ٍ مـن المُزُنـــــــات ِ
وصلـَّى علـى رُوح الحَسيـن وجســمـه ِ طريحاً لدى النَّهريــــن بالفَـــــلوَات ِ
أأنسَى _ وهذا النَّهر يطفـَحُ _ ظامـــئاً قتـيلاً ومظلومـــــاً بـغـير تــِـــــــرات ِ
فقل لاُبن ســعـد ٍ _ أبعــد اللهُ سَعـدهُ _ ستلقى عَــــذاب الـنار واللعــ ـنات ِ
سأقنتُ طـُول الدهـر ما هَبـَّت الصَّـــبا وأقـــــنـُتُ بالأصــَــال والغـــدُوات ِ
على مَعشـَـر ٍ ضلَّـوا جميـعاً وضيَّعـوا مَقـَال رســـُـَول الله بالـــشُـبّــــــهات ِ
فانك تشتم رائحة الرثاء الصادق من خلال لغة القصيدة ومفرداتها ودلالاتها:
الدمع والعبرات والزفرات, تقاسي, تبكي, ضيق الصدر, الحسرات,إجراء العيون, انسكاب الدمع, ريب الدهر, يوم الطفوف, المصاب, الداهية,
النكبات, الإحداث, طف كربلاء, روح الحسين وجسمه طريحاً و ظامئاً,
قتيلاً, ومظلوماً.
وقال من قصيدة عينية من الكامل رثى بها الإمام الحسين(عليه السلام) ومنها:..([36])(1)
رأسُ أبن ِ بنتِ مُحمّدٍ ووصَّـــيهِ يا لــلرجَال ِ, على قـَناةٍ يُرفــــــعُ
والمُسلِــمـُون بمـــنظـر ٍ وبمســـمَـع ٍ لا جـــازعُ من ذا ولا مُتخـَشَّـــعُ
أيقضتَ أجفاناً وكنتَ لها كــرىً وأنمتَ عَيناً لم تكن بكَ تهجــعُ
كُحلَت بمنظركَ العُيــوُن عــمايـة ً وأصمَّ نعيـُــكَ كلَّ أذن ٍ تسَمــعُ
ما روضـَــــــةُ إلا تمَـنّــــت أنــَّـــها لك مَضجعٌ ولخطَّ قبرك مَوضِعُ
في النص التماع عاطفي واضح, ورفض قاطع لما آلت إليه حالة الظلم والقمع اللا إنسانية والتي تمخضت عن رفع رأس الحسين بن فاطمة بنت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وابن علي(عليه السلام) على الرماح بعد قطعه عن جسده الشريف, دون رادع ديني ولا قلب خاشع. فلم تهجع العيون بمصابه بل أصمّ الأسماع, وأعمى الإبصار فما من روضة إلا وتتمنى أن تكون مضجعاً للحسين(عليه السلام) وموضعاً لقبره الشريف.
ففي هذا البيت الخامس تشخيص بلاغي رفيع, فجعل للروضة تمنياً كما يكون للمرء ذلك.
3- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام):
قال الشاعر الخزاعي الكثيرَ من القصائد في مدح ورثاء علي الرَّضا, لمعاصرته له وللقائه به, ونختار له أبياتاً من قصيدة رائية من الطويل يمدحه فيها ذاكراً بعض سجاياه:
إمامُ هـُـدىً لله يعمَـلُ جـاهـــداً ذخائِــــُرهُ التقـوى ونِعمَ الذخــائـرُ
إمامُ سما للدَّيـن حتـــى أنـــارهُ وقد محَّ عنه الرَّسمُ والرَّسمُ داثــرُ
عليمٌ بما يأتي, أبـــيٌّ, مُــــــــوفقٌ مُبيرٌ لأهــل الجَور, للحقَّ ناصِــــرُ..([37])
وأما الرثاء, فللشاعر قصيدة تائية من الطويل يقول فيها:...([38])
ألا مــــا لِعَينـــي بالدُّمّـــوع أستهـلـَّتِ ولـو فقــدَت مـاءَ الشؤون لقــرَّت ِ
علَى من بكتهُ الأرضُ واسترجعت له رؤوسُ الجــبال الشّامخات وذلت ِ
وقـد أعـولـــت تبـكـــي السَّماءُ لفقده وأنجمُـها ناحَـــــت عليه وكَلَــــّت ِ
رُزيـــــنا رَضــــيَّ الله سـبـــطَ نبَـيَّـــــــنا فأخـلفـــــت الدُنــــيا لهُ وتولَــــّت ِ
فنحــنُ عليهِ اليـــومَ أجـــدَرُ بالبـُـــكـا لمرزئــةٍ عــــــزَّت علينا وجـلـــــت ِ
ومــــا خَـــيـــُر دُنــــيا بَــعــد آل محمَّـد ٍ ألا لا نباليـها إذا ما اٌضمحـلــــت ِ
تجـلَّت مُصيـــباتُ الزمــــان ولا أرى مُصيَـبّـــــتــنا بالمصطفــــينَ تجـلــت ِ
إن عينَي دعبل لم تهدأ مدامعها ولم يتوقف سيلها, فكيف وقد بكت الأرض ورؤوس الجبال, والسماء كما ناحت أنجمها على ذلك الإمام الرضا(عليه السلام) الذي كانت مصيبته قد أمحلت الدنيا وأفقدتنا الكثير مما نحن بصدده من عز وخير وعدل.
وفي النص تشخيص بليغ, فجعل الأرض تبكي, ورؤوس الجبال الشامخات تسترجع له في البيت الثاني, وان السماء قد أجهشت بالعويل والبكاء لفقده, وان الأنجم قد ناحت عليه وكلَّت في البيت الثالث, وان الدنيا قد أمحلت له في البيت الرابع.
وهنالك الجناس في مفردات (بكته, تبكي, البُكا). في حين ينتشر الترادف في مفردات (أعولت, تبكي, ناحت).
وفي أبيات دالية ساكنة من المجتث, يقول دعبل راثياً:
يا حَســرة ً تـتــــــَردَّد وعَبــرة ً ليسَ تنــــفد
على عليّ بن مُوسَى بن جعفر بن مُحــمَّد
قضى غريباً بطـــُوس مثلَ الحُسَام المُجرَّد..([39])
وفي نص أخر في الرثاء من الوافر, يذكر فيه الخزاعي بعض خصائص الإمام الرضا من التقوى والرأي المحكم الحاذق والكرم الممدود, والذي قضت عليه المنايا في ارض (طوس) التي هي مدينة (مشهد) في مقاطعة خراسان الإيرانية.
وفي النص جناس (سكناته, وسكونه), وفيه ترادف في كلمتي (سمحاء, ونائل) بمعنى الكرم إذ قال([40]):
وقد كنا نؤمل أن سيحـــيا إمامُ هُدىً لهُ رأيٌ حصَيــفُ
ترى سَكناته فتــقولُ غــــرّ وتحــت سُكُونه رأيٌ ثـقـيـفُ
لهُ سمحاءُ تغـدُو كلّ يـوم بنائــلـه, وســـــاريةٌ تطـــــوفُ
فأهـــدأ ريحَهُ قـــَدرُ المنـــايا وقد كانت له ريح عصُــوفُ
قامَ بطــوسَ تلحفهُ المنـايا مَـزارٌ, دُونهُ نـــــاي قـَــــذوفُ
والشاعر دعبل, وهو في حالة محزنة لفقده ولده (احمد) الذي فارقه وفجع به, ورثاه بقصيدته النونية من الطويل:
على الكُره ما فارقتُ أحمد وانطوى عليه بناءٌ جَندلٌ ورزينُ...([41])
والخزاعي وهو بهذه الحال يتأسى بالني وأهل بيته, ويتذكر قبر المدفون بأرض (طوس) الرضا(عليه السلام) فيخاطبه وهو المتوفى بالسم, فيقول ([42]):
ألا أيـــَـها القَبــــُر الغريـــبُ محــــــلّهُ بطوس ٍ, عليك الســارياتُ هتونُ
شككتُ ! فما أدري أمسقيُّ شربة فأبكيك ؟ أم ريبُ الرَّدى فيهُـونُ
أيا عجـــَــباً يٌســـــمّـونـــك الرضـــا وتلقــاك مِنـَهـم كلمـة وغـُضـــونُ
أتعجــب للأجــلاف أن يتخـيـفــوا معــالـمَ ديــن الله وهـو مـبـيــنُ ؟!
لقـد سَـبـقـت فِيـهم بفضـلِكَ آيــــةٌ لديَّ ولـكــــــن ما هنــــاكَ يَـقـيـــــن ُ
التائية الخالدة: تمثل هذه القصيدة([43]) العصماء أروع ما قاله الشاعر الخزاعي في آل البيت البررة وما أصابهم من كوارث وحوادث, وألمّ بهم من رزايا وأحزان ولست معنياً في هذا البحث بتاريخ أدب هذه القصيدة اعتباراً من كتابها وروايتها وقصتها, فذلك الأمر يمكن للمطالع الكريم أن يتابعه في ديوان دعبل الخزاعي...([44]).
والذي يهمني هنا القراءة النقدية الجديدة لها ومصافحة جوّها وسبر أغوارها للوصول إلى معالمها وأفكارها التي تؤدي بنا إلى القيم الموضوعية التي يتشكل منها بناؤها, وتتعامد فيها هيكليتها وتتواصل معها قيمُها الفنية ولا يمكن أن ننسى المنهجية التي كتب بها الخزاعي قصيدته هذه, والأسلوب الذي عالج فيه مفردات وتراكيب أبياتها.
فمن خلال القراءة الواعية والشاخصة للقصيدة. وجدنا ما يأتي:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
ج. إن المتوازيات الداخلية للعبارات هي موسيقى داخلية, وهي كثيرة في النص:
تُراثٌ بلا قُربَى, وملكٌ بلا هـُـــدى وحُكمٌ بلا شورَى, بغير هُداة ِ([45])
وأين الألى شَطّت بهم غَربةُ النّوى أفانيـنَ فــي الآفـــاق مفتَرقاتِ([46])
د. إن القافية (التاء) التي تؤدي دوراً كبيراً في موسيقى النصّ, لانّها المنبع والمصب للبيت, وليست قيداً. فهي تعطي إيحاءات نغمية وموارد وحي للشاعر ليصبّ بها مجراه الطبيعي. وهي قويّة بما تؤديّه من معناها ومجراها.
هـ. وجود الصور الشعرية المعتمدة على البناء الشعري, ومالها من جماليات تخدم النصّ.
و. القيم الفنّية التي تجعل النصّ مشرقاً بمبناه ومعناه.
ح. بؤر النصّ وظلال الألفاظ والكلمات.
ولنحاول الآن الدخول في عالم النصّ لاستكشاف كنهه وأجواءه ونباشر في تلمس محاوره وقيمه, بعد أن تلمسنا من خلال القراءة الأولى بعض الشواخص القريبة منّا. وحان لنا حينئذ ٍ الدخول للنصّ من خلال الموصلات الداخلية وعبر الخطوط الإيحائية التي نتناغم معها من خلال التحليل المنهجي المتكامل وما دامت القصيدة نوعاً أدبياً, والأدب مجموعة من القيم, فلابدّ لنا من معرفة هذه القيم.
أما القيم الفكرية:
فالنصّ يمثل فلماً سيمّياً من الإحداث الدامية التي مرّت على أهل البيت(عليهم السلام), واستثمره الشاعر أفضل استثمار, مزاوجاً بين الأفكار والعواطف وموصلاً بينهما, بحيث كان النصّ وحدة واحدة, لا فصل فيها ولا تعارض. ويمكن اختزال تلك الأفكار واختصارها بما يأتي:-
1. تذكّر ديار أولئك الناس من أهل البيت(عليهم السلام). (من البيت الأول – البيت التاسع).
2. الأيام وجورها, والظالم ومأربه. (من البيت العاشر – البيت الحادي عشر).
3. وصف آل البيت(عليهم السلام) ومناقبهم. (من البيت الثاني عشر – البيت الثالث عشر).
4. وصف آل أمية ورزاياهم. (من البيت الرابع عشر – البيت العشرين).
5. وصف حق علي(عليه السلام) وفضله. (من البيت الحادي والعشرين – البيت السابع والعشرين).
6. البكاء وتذكّر أهل البيت(عليهم السلام) وبيوتهم وقبورهم والتفجع بهم. ومكانتهم عند الله تعالى والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وجبريل(عليه السلام). (من البيت الثامن والعشرين – البيت التاسع والثلاثين).
7. الرسول وأهل بيته, وما بينهم من حبّ ومودةّ وذكريات ودِين. (من البيت الأربعين – البيت الثاني والخمسين).
8. دعوة فاطمة الزهراء(عليه السلام)لبكاء الحسين(عليه السلام). (من البيت الثالث والخمسين – البيت التاسع والخمسين).
9. وصف معركة الحسين(عليه السلام). من (من البيت الستين – البيت السابع والستين).
10. تمسك الشاعر بآل البيت قربة ً إلى الله تعالى. وترك أعدائهم. (من ب 68 – ب 90).
11. ثم البكاء عليهم, ووصف حالهم وحال أعدائهم (من ب 91 – ب 101).
12. قائم آل البيت(عليهم السلام). (من ب 102 – ب 103).
13. الدعوة للصبر على المكاره, وتحمل أعباء وأهواء الأعداء. (من ب 104 - ب 115).
إن هذه القصيدة تجربة صادقة فريدة من تجارب الخزاعي الكثيرة والمماثلة في موضوعها وأصولها. ولكن أفكار هذه التجربة لم تكن عقلية جافة, بل هي معجونة بالعواطف الفياضة, التي جعلت من النصّ صياغة فنية ونسجاً بارعاً من المطلع حتى الخاتمة. فالشاعر ناقد موهوب أمعن النظر في أفكار تجربته ومزجها بخلجاته ومشاعره الوجدانية, فأثمرت هذه اللوحة الفنية.
وأما القيمة العاطفية:
فالنص تغذيه الحواس التي لها الأثر البالغ في الحياة النفسيّة, فالمتلقي عند مواجهته للنّص المُرسل من المبدع, فلا بد له من الإحساس بالمشاعر والعواطف التي تصاحب الأفكار وترفرف بين مفردات محتوى النص ووراء كلماته, هذا الإحساس الذي له علاقة وثيقة بالحالة النفسية لكلا طرفي المنفعة التي تتركها الرسالة من عوامل التهيج النفسي المرتبطة بعالم الجمال (الستاطيقا).
وعاطفة النص تتراوح مقاييسها قوة ً وضعفاً واستمراراً وانقطاعاً, والتأدية مرتبطة بالشاعر. فهي في هذا النص قويّة سامية مستمرة. لان الباعث جدير بالسموّ والإخلاص والصدق, فجاءت مطبوعة غير مكلفة.
إن عاطفة (الحزن) تستغرق القصيدة بكاملها وتستوعب دفقات خلقها لتختزن في بؤرها.
فالقصيدة تواجهك بصوت البكاء والزفرات والنوائح:
تجاوبنَ بالإرنان والزفــــــرات نوائحُ عُجــمُ اللفظ والنطقاتِ (ب1).
فكم حسراتٍ هاجها بمحسر ٍ وقوفي يَوم الجمعِ من عرَفاتِ (ب9).
وبعد هذا السرد المتواصل المؤلم, يبكي رسم الدار ويذري دمع العين بالعبرات, وقد تفككت ركائز صبره وهاجت صبابته لرسوم الديار المقفرة الوعرة:
بكـيـتُ لرســمِ الدارِ مـن عـرفــَــــاتِ وأذريتُ دمعَ العين بالعبَرات ِ
وفكَّ عُرى صبري وهاجت صبابتي رسومُ ديار ٍ أقفرت وعــرات ِ (ب28 و 29)
ثم تسمو العاطفة مشبوبة بالحزن العميق, لان مدارس الآيات وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف قد خلت من التلاوة, لأنها قد خلت من أهلها.
وان منزل الوحي أقفر من ساكنيه الذين كانوا يشكلون أنواره الساطعة وقممه الجامعة المانعة في العلم والمعرفة الواسعة, والذين شغفهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بحبّه فجعلهم آله وأصفياءه:
مدارسُ آيـات ٍ خلت من تلاوة ٍ ومنزل وحي ٍ مقفرُ العرصات ِ (ب30)
ديـَـار عليّ ٍ والحُسَيـن وجعــــفر ٍ وحمزة والسجّاد ذي الشفنات (ب32)
تلك الديار والمنازل التي كان الناس يهتدون بهدى أهلها وهي مسكونة بالصلاة والصوم والتقى والتطهير:
منـازلُ كانت للصلاة وللتـُّقــى وللصوم والتطهير والحسنات ِ (ب36)
إلى أن يصل بأفكاره وأحاسيسه إلى فاطمة الزهراء(عليها السلام) لينقل لها صورة مصرع الحسين(عليه السلام) مجدلاً عطشاناً قرب شاطيء الفرات, وهو يندبها ويؤكد لها بأنها ستلطم خدّها عنده وستجري دموعها لمقتله ومقتل آل بيته وأصحابه:
أفاطــمُ لـو خِــلتِ الحُسيــنَ مُجّدلاً وقد مــــاتَ عَطـشاناً بشط فُـرت ِ
إذن للطمــت الخــدَّ فاطـــمُ عنــــدهُ وأجريتِ دَمع العينِ في الوجنات ِ
أفاطمُ قومي يا آبنة الخير وانـــــدُبي نجـــوم سماوات ٍ بـــــأرض فـلاة (ب 53 – ب55)
وقد تفرقت قبورهم هنا وهناك.
وقد أشار الخزاعي إلى وفاتهم بالعطش وهم قرب ماء الفرات, ويتمنّى لو إن المنية قد وافته فيهم ويتوجع لمصابهم ويشكو لوعته عند ذكرهم وكأنه قد سقي كأس الثكل والفظعات:
توُفـوا عِطاشاً بالفرات فليتـنـــــي توُفيّت فيهم قبل حينِ وفاتـــــي
إلى الله أشكو لوعة ً عند ذكرهم سقتني بكأس الثكل والفظعات (ب61 – ب62)
وهكذا تجد العاطفة مسيطرة في النص إضافة إلى انفعال الشاعر في مشاعره واختيار منتخبات ألفاظه.
وفي أبيات النص عواطف أخرى, كعاطفة (التحسّر) على لوعة أهل البيت(عليهم السلام) (ب9) كما مر. وفي (ب90, ب91):
الـم تـرَأنـي من ثـلاثــين حجّةً أروح وأغدو دائم الحسَـرات ِ
أرى فيئهم في غيرهم متقسماً وأيديَـهُم مِن فـيئـهم صَفِرات ِ
فعاطفة التحسّر في البيت الأول مباشرة, في حين أنها في البيت الثاني إيحائية وغير مباشرة لان الشاعر يتحسّر فيها عندما يجد خراج أهل البيت متقسماً ظلماً وان أيديهم لم تنل حقوقهم.
وكذلك (ب101) الذي يعانق تلك العاطفة:
فلولا الذي أرجوهُ في اليوم أو غدٍ تقطعَ قلبي إثرهم حسراتِ
وإذا ما تحولنا إلى عاطفة (الرغبة والإحساس بالجمال) تطالعنا عاطفة الحب الروحي المتمثل بآل البيت, كما في (ب13), (ب40), (ب43), (ب72), (ب74), وإذا ماتناولنا (ب79) الذي يقول:
مَلامَكَ في أهل النبي فانهم أحبايّ ما عاشوا وأهلُ ثِقاتي
وكذلك (ب80, ب81), إلى أن يقول:
فيا ربَّ زدني من يقيني بصيرةً وزد حُبَّهم يا ربَّ في حسَناتي (ب82)
والشاعر يجعل من زيادة هواه لآل البيت معادلاً موضوعياً لزيادة بصيرته وحسناته, وهذا غاية الحب والتفاني والفن.
وكذا الحال في (ب86):
أُحبُّ قصيَّ الرَّحمِ من اجلِ حُبكُم وأهجرُ فيكم أسَرتي وبَناتي
فحّبه هذا غير متناولا, وعاطفتة قويّة بحرارة ٍ تسري كما يسري الدم في العروق والشرايين, وهي متوهجة متوقدة دائمة الأثر والصدى.
وجاء في (ب 108):
فاني من الرحمن أرجو بحبَّهم حياة ً لدى الفردوس غير بَتات ِ
فالشاعر هنا, جعل من حبه لآل البيت معادلاً ومطلباً لدخول الجنة في الآخرة.
وفي مقابل ذلك نجد عاطفة (الغضب) المتمثلة ببغض أعداء أهل البيت من الأمويين وأتباعهم وأشياعهم, وهي ماثلة في النص (ب14-15), (ب45), (ب48), (ب75), ونجد الخزاعي في (ب92-93) يقول:
فكيف أداوي من جوىً؟ لي والجوى أُمـــــيّةُ أهـلُ الفسـق والتبَّــــعاتِ
بـناتُ زيـــــادٍ فـي القصــــور مصـونـــَة وآل رسُــــــولِ الله فيَ الفلَـــوات ِ
لقد حملت تلك العواطف من الصدق في أعماق الوجدان واغترفت من معين الفواجع التي مرت بآل البيت الكثير, ما جعل النص سلوى لفؤاد الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام), وقد وضع فيه الخزاعي يده على الجرح, ما جعل الإمام ينفعل مع النص مراراً عند إنشاده بين يديه في خراسان, لدرجة أن بعض أبياته قد أبكاه حتى الإغماء ثلاث مرات([47]).
وعلى المستوى الدلالي: يمكننا أن نتعرف على التعبير اللغوي للنص مع خصائص أسلوبيتة, للوصول إلى القيم المخزونة فيه من خلال العلاقات التي تشكلها تلك اللغة. وينظر إليها عن طريق الفم والأذن...([48]).
وهذا يتطلب منا معرفة القيم المعجمية والتركيبية البنائية, وما يلي ذلك من قيم بنيوية تخص المستوى الصوتي, كاشفين عن رأينا في التأثر بآراء تشومسكي التوليدية([49]) في التحليل إضافة إلى المدرسة البنيوية ليكون عملنا تكاملياً.
وما دامت اللغة: أداة للتعبير وترجماناً للتفكير بين أفراد المجتمع فهي إذن كائن اجتماعي تفاعلي حي. وهذا ما يجعلنا نتعرف على مفردات معجم الخزاعي في التعبير عن أحاسيسه وأفكاره التي مرّ ذكرها. وان المفردات هي أدوات المعاني وعوامل وأجزاء الأسلوب, فلابدّ من دراستها ومعرفة مدى تأثيرها على المتلقي.
ونبدأ بلغة القصيدة التي تخص وصف معاناة آل البيت(عليهم السلام).
فاستعمل الخزاعي ألفاظ الحزن والرثاء في بكائيته الخالدة هذه, وهي ألفاظ متخصصة غير مشتركة مع ألفاظ الأغراض الأخرى. وقد أفرزتها القراءة النقدية, وجعلتها مرتبة هجائياً:
1- أدماء النحور: (البيت / 97).
2- ارنان (صوت البكاء): (ب/1).
3- البكاء: (ب/28 + 83 + 88 + 94 + 95).
4- تقطع القلب: (ب/101).
5- الجزع: (ب/105).
6- الجور: (ب/10 + 39 + 103).
7- الحَسَرات: (ب/9 + 90 + 101)
8- الدموع: (ب/28 + 54).
9- الرَّزايا: (ب/18 + 107).
10- ريب الزمان: (ب/64).
11- زفرات: (ب/1 + 115).
12- سبي الحريم: (ب/98).
13- شكوى: (ب/62).
14- الصّبر: (ب/29).
15- العبرات: (ب/28 + 46 + 88 + 111).
16- العطش المؤدي للموت: (ب/53).
17- قبر: (ب/56 + 57 + 58).
18- اللطم: (ب/54).
19- لوعة: (ب/62).
20- مُجدّلاً (مُقطّع الأوصال): (ب/53).
21- الموت: (ب/53 + 71 + 106).
22- النوائح: (ب/1 + 83).
23- الوفاة: (ب/61).
وأما المفردات الأساسية التي ضمّـتها القصيدة وتأثرت بها من خلال أنساق القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهّرة, فهي الأخرى أوردها هجائياً:
احمد: (ب/34).
الإسلام: (ب/14).
الله: (ب/12 + 37 +50 + 52 + 62 + 83 + 102 + 109).
أي (آيات): (ب/24).
الأيمان: (ب/35).
الباطل: (ب/103).
البركة: (ب/50 + 102).
التُقى: (ب/36 + 74).
تلاوة: (ب/24 + 30).
جبريل الأمين: (ب/27 + 37).
الجزاء: (ب/103).
الحجّ: (ب/83).
1- الحسنة: (ب/36)
الحقّ: (ب /87 – 103).
خاتم الرسل: (ب/22).
الخيرات: (ب/80 + 94).
الرَّب: (ب/82).
الرَّحمن: (ب/58 + 106).
الرَّحمة: (ب/37).
2- رسول الله: (ب/31 + 33 + 93 + 96 + 97 + 98 + 99)
سبيل الرشاد: (ب/38 + 80).
السّـُوّر: (ب/34 + 72).
شُورى: (ب/17).
الصلاة: (ب/12 + 36 + 41 + 51 + 52 + 56 + 94).
الصوم: (ب/12 +36 + 41).
ضلال: (ب/16).
الطهارة: (ب/36).
الفجور: (ب/14).
الفردوس: (ب/108).
الفرض (الواجب): (ب/15).
الفرقان: (ب/72).
القران: (ب/24).
الكتاب (القران): (ب/15).
الكفر: (ب/14).
محمد: (ب/49 + 72 + 78).
المليك: (ب/51).
المنكر: (ب/110).
النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (ب/13 + 40 + 43 + 47 + 51 + 79).
النعمة: (ب/103).
النقمة: (ب/103).
الهدى: (ب/17 + 35 + 51 + 74).
الهوى (الشهوة): (ب/13).
الوحي: (ب/30).
وحي الله (جبريل): (ب/34).
اليقين (الأيمان): (ب/82).
لقد كان اختيار الشاعر الخزاعي لألفاظه مناسباً ودقيقاً ومؤدّياً لمعانيه حيث عانقت تلك المفردات غرض النص وتجاوبت معه تجاوباً تطابقياً وايجابياً. ولم تتنافر أو تتصادم أو تتقاطع معه. لأنها عربية أصيلة ومأنوسة بعيدة عن الغرابة. فصيحة لا عامية, صحيحة الاستعمال غير مخالفة للغة, لا تنافر بين حروفها.
ومن الظواهر الدلالية في النص:
أ- الترادف([50]) : وهو من متعلقات دراسة المعنى المرتبط بتعدد الألفاظ من حيث وحدة دلالتها.
ومن خلال القراءة وجدنا ترادفاً في المفردات آلاتية مع الإشارة للأبيات:
الكتاب /15 القران/24 الفرقان/72
خلال/25 مناقب/25
القلى /6 البغض/13
ديار/32 منازل/34
مُضطغِن/45 ذو إحنَة/45 الأحقاد/48
آل/96 أهل/43 رَهط/47
مات/53 تُوفي/61
الأهواء/113 الشهوات/113
المودّة/81 الحبّ/82
جبريل الأمين/27 الوحي/34
الله/12 المليك/51 الرحمن/58 الربّ/82
النبي/13 رسول الله/31 احمد/34 محمد/49
ولا أريد الدخول في تفصيل الترادف وتمييز الأفراد ووحدة الاعتبار, فهذا غير محله.
ومن الترادف المذكور في القصيدة ماكان قد أتضح من خلال السياق مثل:
بكيت/28 وأذريت دمع العين بالعبرات /28
وخَلت /30 وخفّ أهلُها /41
والترادف بصورة عامة سبيل للتوسع الأسلوبي في اختيار مفردات التعبير وتسهيل سيرورتها في منهجية إغناء النص وصفات معانيه.
ب- التكرار: لقد ذكر الشاعر بعض المفردات ثم أعادها بعينها, فمنها وهو الغالب: اتفاق المعنيين الأول والثاني وهو ما يعرف باتحاد الألفاظ والمعاني ففائدته تأكيد الأمر وتقريره في النفس.
وذكره أستاذنا الدكتور احمد مطلوب تحت مصطلح (الإطناب بالتكرير)([51]).
أما مفردات التكرار التي وردت في القصيدة فهي كما يأتي مع أغراضها:
مناقب /25 مناقب /26 |
زيادة للتطرية والتجديد |
ديار /32-33 ديار /39 |
تأكيد الملازمة |
منازل /34- 38 |
زيادة التنبيه على الكثرة |
هم /43 وهم /43 |
زيادة الإيضاح |
خير سادات /43 وخير حماة/43 |
زيادة الصفة |
أذريت دمع العين /28 وأجريت دمع العين /54 |
زيادة التنبيه الأولى للمتكلم والثانية للمخاطبة فاطمة الزهراء(عليها السلام) |
بشط فرات /53 بشط فرات/60 |
تأكيد المكان |
لهم كل حين /67 لهم في نواحي الأرض /67 |
زيادة التنبيه الأولى مع الزمان والثانية مع المكان |
أهل النبي /79 وأهل ثقاتي /79 |
تأكيد لزيادة التنبيه |
فيا نفس /104 ثم يا نفس /104 |
تأكيد النداء في الترغيب. وفي (ثمّ) دلالة على أن حالة الترغيب الثانية ابلغ وأقوى |
العبرات /28 العبرات /111 |
للتطرية والتجديد |
على العرصات /4 على العرصات /4 |
للتطرية والتذكر |
عفاها جور /39 مدة الجور/105 |
جاء بها على سبيل التفصيل |
وقبرٌ /57 وقبرٌ /58 |
للتطرية بالكثرة والتفرّق |
الرحمن /106 الرحمن /108 |
تأكيد الخضوع والتعلق |
الصوم/36 الصوم /41 |
للتهويل والتعظيم الأولى منازل للصوم والثانية سؤال عن زمان عهدها بالصلاة |
أمّا إذا كان المعنيان مختلفيـن, فالأمر يختلف, وتصبح اللفظتان المتفقتان في حـــالة (اشتراك) في المعنى, نحو:
مُدَّة الجور /105 قرَّب.... مُدَّتي /106
فالأولى بمعنى (وقت الجور), والثانية بمعنى (الموت) أو نهاية الحياة. وكذلك الحال في:
نجوم الليل /52 واندبي نجوم سماوات /55
فالأولى هي النجوم الحقيقة: في حين أن (نجوم) الثانية التي على الزهراء(عليها السلام) أن تندبها وتبكيها فهي نجوم مجازية: وتعني أجساد الشهداء المجزرين الذين افترشوا الفلاة. فهنا جرى تطويع لبعض المفردات التي تّم اختيارها لتوائم السياق بما تمتلكه من استعداد لنقل المضمون الشعري الجديد الذي يخدم الأداء الفني والتطور الدلالي.
وعلى مستوى التركيب: فانه تميز بالإيجاز في تأليف العبارات التي برز أسلوبها على الاهتمام بالمسند والمسند إليه كأهم عنصرين من عناصر علم المعاني والابتعاد عن كثرة الروابط من حروف عطف وجر وضمائر, كما تميز أسلوب الخزاعي بالرمز والإشارة دون التفسير والتصريح (ب19- 23, 76 – 78, 91) وكانت جمل النص متنوعة بين الثابت والمتحرك من القواعد النحوية والتي تصب في جانب الأسلوب الموحي المؤثر الحي. ولا نريد تفصيلها في هذا البحث الموجز.
والمسند هو العنصر البارز في المعاني, وجاءت الأفعال الماضية متقدمة ً على المضارعة والطلبية والمبنية للمجهول. كما أن الغائب متقدم على المخاطب والمتكلم. هذا بالإضافة إلى ظاهرة التقديم والتأخير وهي واضحة في النص.
وأما تراكيبها وهيكلتها: فيمكن دراستها من خلال تزاوج جملها وتجاور ألفاظها وانسجام عباراتها وائتلاف مخارج حروفها واكتناز عوامل القوة في نسجها ونظمها.
وجودة الصياغة لابد أن تتم بالتزاوج المتوافق بين الدّال والمدلول أو الشكل والمضمون لاختيار التراكيب لمعرفة ملاءمتها لما يوصف.
وأما المستوى الصوتي: فيعنى بموسيقى النص التي تنفعل بها نفس المتلقى مع وحدة النغم الموسيقية, ذلك المتلقى الذي يستلهم القيم الفكرية والمضامين الانفعالية والعواطف الجياشة عبر توصيلات اللغة تحت رقابة وقيادة سلم موسيقي موزون وقافية موّحدة ملائمة مرتبطة بالمعجم اللغوي الذي يمتلكه المُرسل المُبدع الموهوب برؤية إيقاعية.
وهذه القصيدة التائية ذات البحر الطويل, قد نسق أبياتها وجاور بينها بوحدة عضوية ملتئمة الأجزاء مترابطة فيما بينها بالوزن الواحد والقافية الموحدة والروي.
انك تعيش تحت تأثير هذه التائية الخالدة بسردٍ شعري عاطفي عميق, وأسلوب حواري متفرد, ولحن متذوق تسكنه الدموع والحسرات والزفرات, وتتحرك بين أنغامه لوعة جور الزمان.
وأنت تقرا مقاطع ولوحات النص يتجاذبك وعي الحقيقة المتمثل بالأسلوب الواقعي الأخاذ.
ولو حاولنا معرفة الموازنة والمزاوجة بين المفردات والعبارات في بعض الأبيات, فقال الشاعر دعبل:
بكيتُ لرسمِ الدار من عَرفات ِ وأذريتُ دمَع العين بالعبرات ِ (ب28).
فالتوازن بين (من عرفات) و (بالعبرات).
وكذلك البيت:
إذن للطمتِ الخدَّ فاطمُ عندَهُ وأجرَيتِ دمعَ العينِ في الوَجناتِ (ب54).
فالتوازن حاصل بين الفعلين: (وأذريت) ب 28 و (وأجريت) ب 54.
وكذلك في التقابل الحاصل بين مفردتي: (قوتي) ب105 و (مدتي) ب 106.
و (حياتي) ب 106 و (قناتي) ب 107 و (هوى) ب 2 و (نوى) ب 42.
إن هذا التوازن والتقابل يقع في النثر الفني أكثر من الشعر. ومع هذا فانه يمنح الصوت جرساً موسيقياً إضافة إلى موسيقاه الخارجية – كما بينا – في مقدمة التائية. وبذلك يكون جوّ القصيدة ممتعاً ولذيذاً وملائماً لعواطف وأحاسيس الشاعر.
وأما المستوى الفني: فيمكن أن نسلّط الضوء من خلاله على بؤر الخلق والإبداع المكنونة في النص, ولبيان حالات الانزياح فيه.
فإذا ما آستوضحنا البديع البلاغي فإننا نجده في فن الجناس فيما يأتي, وهو أوفر حظاً في القصيدة. وهذا الجناس الذي هو من المحسنات اللفظية موجودة بأنواعه في أسلوب الشاعر.
1- الجناس التام: وهو اتفاق اللفظين المتجانسين في نوع الحروف وعددها وهيئاتها وترتيبها, مع اختلاف المعنى, نحو:
فان قرّب الرحمنُ من تلك مُدتــي وأخر من عُمري بطول حياتي /ب106
فـاني من الرحمن أرجــو بُحبـّهــم حـياةً لدى الفردوس غير بَتاتِ /ب108
فـ (حياة) في البيت الأول هي الحياة الدنيا, و (حياة) في البيت الثاني تعني الحياة الآخرة يوم القيامة.
2- الجناس غير التام: وهو اختلاف اللفظين المتجانسين بزيادة حرف واحد:
أ- يقع في البداية, نحو: بالغاً.... مبالغاً /ب59 وهذا هو الجناس المردوف.
فالأولى تعني: واصلاً, والثانية تعني: أماكنها.
ب- يقع في الوسط, نحو: جرّ جَور ب/10 وهو الجناس المكتنف.
فالأولى (جرّ) بمعنى: جرى وامتد , والثانية (جور): أي ظلم.
ج- في النهاية, نحو: مدّ ب/100, ومدّة ب/105وهو الجناس المُطرف. فالأولى (مدّ):
أي قدّمَ , والثانية (مُدّة) أي زمن وفترة.
3- الجناس المزيد بحرفين:
أ- ما زيد في أوله وبعد أوّله, نحو: عهد..... معاهد /ب5.
ب- ما زيد في أوله وبعد ثانية, نحو: نفس /ب104 أنفاس /ب2
ج- وهو ما زيد حرفان بعد ثانية, نحو: زمّ..... زمِام /21
فالأولى بمعنى: شدّ, والثانية بمعنى: المقود والمسؤولية.
4- الجناس المقلوب: وهو وقوع اختلاف في ترتيب اللفظين المتجانسين, نحو: السروات
/ب68 , والشورات /ب72.
5- جناس التصريف: وهو أن تنفرد اللفظة عن الأخرى بإبدال حرف واحد:
أ- في البداية, نحو: شتات /ب105 بتات /ب108.
حيث تم إبدال الشين باءً.
ب- في الحرف الثاني, نحو:
فرات / ب53 فلاة /ب55.
فأبدلت الراء لاماًً.
ج- في الحرف الثالث, نحو:
الغدرات / ب78 الغدوات /ب95. فأبدلت الّراء واواً.
وكذلك: الحجرات / ب96 الحجلات /ب98. فأبدلت الّراء لاماً.
د- في الحرف الأخير, نحو: تراث... ترات /ب20 فأبدلت الثاء تاءً.
6- جناس الاشتقاق: وهو أن يجمع بين اللفظتين الاشتقاقُ, نحو:
هدى.... هداة /ب17 يهتدي /ب35 هدي /ب 74.
تخيّر.... خِيرة الخَيرات / ب80 خَير / ب74
7- الجناس المغاير: وهو أن تكون أحدى اللفظتين اسماً والأخرى فعلاً: نحو:
منازل..... ينزل /ب34
تُوفّي..... وَفاة /ب61
أحِبّ.....حُبُّ / 86
8- جناس التماثل: وهو أن تكون اللفظتان أما اسمين أو فعلين, نحو:
عفا.... تعفو /ب39 (فعلان).
وارث /ب40 ميراث /ب43 (اسمان).
فن الطباق:
كما نجد البديع أيضاً في الطباق الذي يعني أن يأتي الشاعر بالمعنى وضّده. وهو من المحسّنات المعنوية حيث يزيد هذا التضادُّ النصَّ حسناً وطرافة. لاستحالة وجود اللفظين في شيء واحد وآن ٍ واحد ولكنّ تقابلهما ممكن.
وحالات الطباق لدى الشاعر في هذه القصيدة:
1- الطباق الحقيقي: وهو ماكان بألفاظ الحقيقة وكما يأتي:
أ – إذا كانا اسمين, نحو:
ماض ٍ.... آت ِ / ب2 , الوصال..... الغرَبة (النوى والبعد) / ب6, النور.... الظلمة / ب11, حب.... بغض / ب13 , الكفر.... الإسلام / ب14, ضلال / ب16 وهداية / ب17 , الليل..... الغدوة (النهار) / ب95, نحف.... غُلظ / ب99 , حق... باطل / ب103, النّعمة..... النّقمة / ب103, مُدّتي (موتي).... حياتي / ب106.
ب- إذا كانا فعلين, نحو:
أروح... وأغدو / ب90, قرَّب.... أخرَّ / ب106.
ج- إذا كانا ظرفين, نحو:
بَعدَ / ب12 قبلَ / ب61.
2- الطباق المجازي: وهو ما كان بالفظ المجاز, نحو:
رزايا أرتنا خُضرَة الأفق حمرةً وردّت أجاجاً طعمَ كلَّ فرات ِ /ب18.
فخضرة الأفق تعني الأمل والأمان, في حين أن حمرته تعني الجور والخطر, وقد ذكر الشاعر بان أل (رزايا) هي التي جعلته يرى ذلك. وهذا الأمر ساعدنا فيه السياق.
كما ذكر الخزاعي بان تلك المصائب العظام قد أحالت طعم الماء العذب إلى مالح مرّ.
إنّ الرزايا ليس فيها تجسيم حي ومتحرك ليفرض علينا أن نرى ذلك, فالكفار من ذوي الشر والضلال هم وراء تلك المصائب, وهم الذين يحيلون الأمل إلى أداة قلق ومضايقة وهلاك.
وقال دعبل:
وكيف يُحبّون النَّبي ورَهَطـــــهُ وهُم تركوا أحشاءهم وَغرَات ِ /ب47
لقد لاينوُه في المقال وأضَمـروا قلوباً على الأحقاد مُنطويــات ِ /ب48
فهو يتساءل عن حقيقة حب أولئك الحاقدين على أهل البيت, للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) و آله, وهم الذين قتلوهم وجزروا أجسادهم واحرقوا قلوب ذويهم, فكيف يكون حبّ مع حقد ولاحب ؟!
وان نقيادهم وملاءمتهم باللسان تتنافى مع ما أضمروه في قلوبهم المنطوية على الأحقاد.
3- الطباق المختلف: وهو الطباق الجاري بين لفظين متقابلين في المعنى ومختلفين في الإسناد, فاحدهما: اسم والأخر: فعل, نحو:
حِمَى لم تزُره المذنباتُ, وأوجـــــهٌ تُضيءُ لدى الأستار في الظلمَاتِ /ب70
وما طلعت شَمسٌ وحان غروُبها وبالليـل أبكيــــهم, وبالغــــدوَات ِ/ب95
ففي البيت الأول: الفعل (تضيء) والاسم (الظلمات).
وفي الثاني: كان الفعل (طلع) والاسم (غروب).
أما البيان البليغ, فيمكن الإشارة إلى بعض صوره في الاستعارة والكناية والتشبيه والمجاز.
فالتشبيه يمكن رصده في البيت 75:
أولئك لا أشياخُ هند ٍ وتربها سُميّةَ, مِن نوكَى ومِن قذِرات ِ
فيصف أهلَ البيت (أولئك) بأنهم ليسوا كأشياخ هند ٍ وربيبتها سمية ممن يوصفون بالحمق والقذارة.
وهذا تشبيه مؤكد حذفت منه أداة التشبيه, وان وجه الشبه موجود ويؤكد حالة التناقض بين المشبّه (أهل البيت) (عليهم السلام) وبين الطرف الثاني المشبه به المسبوق بـ (لا) النافية.
في حين ذكر الشاعر صدر البيت 96:
ديار رسول الله أصبحن بلقعاً.
فالتشبيه بليغ لأنه حذفت منه الأداة ووجه الشبه
وأما البيت 115:
كأنك بالأضلاع قد ضَاق رَحبُها لِما ضُمَّنتِ من شَِّدة الزفرات ِ
فهذا تشبيه ضمني: فالشاعر يشبهه بالمحزون الذي حذف من النص, وأبقى اللوازم والقرائن التي تدلّ عليه, وهي: الأضلاع التي تعنى الصدر الذي ضاق جوفه لشدة وحرقة وحرارة الأنفاس. فهو لم يصرح بالتشبيه وإنما فهم ذلك من السياق.
وكذلك الاستعارة يمكن رصدها من خلال الانزياحات آلاتية, ويمكن أن نختار مثالاً واحداً لها, إذ يقول دعبل: / ب3
فأسعَدنَ أو أسعَفنَ حتّى تقوّضت صُفوفُ الدُجى بالفجر مُنهَزِمات ِ
فالسّهاد جعل الشاعر في ارق دائم, مما حمله على تحمل طول الليل الدامس بعد أن تهدمت واضمحلت صفوف الظلمة منهزمة أمام زحوف الفجر.
وهنا شبه الخزاعي الدجى بالجيش الزاحف الذي له ألويته وصفوفه وقد انهزمت أمام قوى الردّ المقابل (الفجر). وترك للوهم أن يصوّر الحالة بساحة معركة وجيش منهزم. واخترع له صفوفاً استعارها للخيال والإيهام. فوقع تجسيم وتشخيص للظلمة.
وهنالك حالة انزياح في البيت 62: إذ يقول الشاعر:
إلى الله أشكو لوعة ً عند ذِكرهم سَقتني بكأس الثكلِ والفظعاتِ
فهنا جرى تشخيص للوعة وحوّلها إلى شيء محسوس له من الأيادي القذرة التي تسقي الموت والشناعة بكؤوسها. فاستعار السقاية والكأس.
وأما الكناية في النص, فهي كلام تفوه به الشاعر ويريد غيره من المعاني ولذلك ترك التصريح به.
ففي ب 21 ذكر دعبل (الموصى إليه) كناية عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) وقال: (ولو قلدوا... زمامها), فالمكنى عنه نسبة أسندت إلى ماله اتصال به, ولكن الآخرين منعوه من تقلده حقه. فنسبَ إليه ضياع الحق. وهذا ما يعرف بـ ك ناية النسبة.
وفي ب 111 (سأقصر نفسي جاهداً عن جدالهم) كناية عن انه في حيرة من أمره لما يلقاه من الملمات والأحزان, لذلك فهو سيركن إلى السكوت. والموصوف في هذا البيت مذكور باللفظ (نفسي). ولهذا تُسمَّى هذه الكناية بـ (الكناية عن صفة).
وفي ب 66:
قليلةُ زُوّار ٍ, سوَى بَعضِ زُوَّر ٍ من الضَّبع والعقبان والرَّخِمات ِ
وهذا دليل على ندرة الزوار وكناية عن عدم الزيارة للموصوف سوى ما كان من بعض الطيور الجارحة والحيوانات الوحشية. وهذه هي كناية الموصوف المختصة بالمُكنّى عنه ولا تتعداه, وذلك ليحصل الانتقال منها إليه.
وإذا ما انتقلنا إلى المجاز وجدناه كثيراً في النص:
فجاء في البيت 41: (نسال الدار) أي: أهل الدار فالدار مجاز مرسل علاقته (المجاورة), وقد ارتحل عنها أهلها مسرعين.
وفي ب 48: (واضمروا قلوباً على الأحقاد منطويات), فالقلوب لا تضمر محسوسة ولكن الذي يضمر هو الحقد الذي تنويه وتكتمه.
أما ب 89: الذي يقول فيه الشاعر (حفّت الأيام حولي...) فالأيام لا تحف وإنما الذي حف حوله هو: غدر وظلم الطغمة الحاكمة في تلك الأيام.
وأما الصور فهي كثيرة منها:
صورة الأنفاس الحائرة التي تبثها الأنفس الاسارى بحب أهل البيت بين ماض ٍ وات. /ب2.
صورة تلاشي وانهزام صفوف الدجى أمام زحوف الفجر . /ب3.
صورة الأحشاء المتناثرة في حر الصحراء الهجير. /ب47.
صورة الحسين(عليه السلام) وهو مقطع قرب شط الفرات مع إخوانه وأفراد عائلته وصحبه من الشهداء الأبرار / ب 53 – 55.
صورة معركة الطف / ب 71.
صورة آل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وصورة آل زياد /ب93 – 99.
صورة صدر الإمام الرضا(عليه السلام), وما كان يعانيه من شدة الزفرات التي تدك أضلاعه التي ضاق رحبها.
1. أما البيت 112 الذي يقول فيه دعبل:
أحاول نقلَ الشمسِ من مستقرَّها وإسماعَ أحجار ٍ مِن الصَّلدَات ِ
فهي صورة بليغة للحالة التي وصل إليها الشاعر عندما قرّر لنفسه السكوت عن الجدال لما لقيه من متابعة الأعداء له وتعنيفه (ب 111). فهو في هذا البيت يقدم لنا صورة الطرف الثاني من المعادلة (الأعداء) وهم يرون المستحيل من سماعه والتأثر بأفكاره وكأنه (أي: دعبل) يحاول نقل الشمس من مستقرها, وان كلماته لأتسمع الأحجار الصلدة الصامتة.
وهذه المبالغة المستحيلة عقلاً هي الصورة لجهالة الأعداء وأهوائهم وتعنتهم.
وارغب هنا في خاتمة البحث أن اذكر بالإيجاز ظاهرة معنوية بليغة منتشرة في أجواء القصيدة وهي (ظاهرة القصر) التي تعني تخصيص أمر ٍ بآخر بطريق مخصوص. أما طرقه التي استخدمت في النص, فهي:
1. النفي والاستثناء, نحو:
ولم تكُ ألا محنةٌ كشفتهمُ بدعوَى ضَلال ٍ مِن هَن ٍ وَهنَـات ِ / ب 16.
2. العطف بـ: لا, نحو:
أولئك لا أشياخ هند ٍ وتربها سُمَيَّةُ مِن نَوكَى ومِن قـــــــذرات ِ /ب75.
3. تقديم ماحقه التأخير, نحو:
على العرصات الخالياتِ مِن آلمها سَلامُ شج ٍ صَبًّ علىَ العَرَصات ِ / ب 4.
وخاتمة البحث:
ازعم أني تناولت بالتحليل القصائد الوجدانية التي قالها الشاعر الخزاعي في حق ال البيت الأطهار مؤكداً على القصيدة التائية الخالدة وقد أوليتها اهتماماً وتحليلاً وفقاً للمنهج التكاملي موضحاً أنساقها بنيوياً وأسلوبيا وعارضاً ما فيها من انزياحات بلاغية.
ولم أجد من سبقني في ذلك, ولهذا وجدت من المفيد أن أقدم هذه الثمرة نتيجة للقراءة النقدية الجديدة في ديوان دعبل بن علي الخزاعي.
المصادر والمراجع:
1. القران الكريم.
2. أسباب النزول للواحدي (ت 468 هـ). القاهرة. مط. مصطفى البابي الحلبي, 1379 هـ - 1959 م.
3. ألاغاني. لأبي الفرج الاصفهاني (ت 356 هـ). بيروت, دار الثقافة, 1955 – 1961 م.
تاريخ دمشق الكبير. لابن عساكر الشافعي (ت 571 هـ). دمشق, مط. روضة الشام, 1331 هـ.
4. التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. لابن المبارك. القاهرة, مط مصطفى البابي الحلبي, 1347 هـ.
5. الترادف في اللغة. حاكم مالك الزيادي. بغداد, وزارة الثقافة, 1980 م.
6. تفسير القران العظيم. لابن كثير (ت 774 هـ). القاهرة, مط, مصطفى ألبابي, (د. ت).
7. التفسير الكبير. للفخر الرازي (ت 606 هـ). القاهرة, المطبعة البهية, (د. ت.).
8. جامع البيان عن تأويل القرآن. للطبري محمد بن جرير (ت 310 هـ). تح. محمود محمد شاكر. القاهرة, دار المعارف, 1957م.
9. جواهر العقدين في فضل الشرفين. للسمهودي (ت 911 هـ). تح. د. موسى بناي ألعليلي.
10. بغداد, مط. العاني, 1405 - 1407 هـ / 1984 – 1987 م.
11. خصائص أمير المؤمنين على بن أبي طالب. للنسائي (ت 303 هـ).القاهرة, مط. التقدم, 1348 هـ.
12. ديوان دعبل بن علي الخزاعي. تح. عبدالصاحب الدجيلي. ط2. بيروت, دار الكتاب اللبناني, 1972 م.
13. ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى. للطبري احمد بن عبدالله (ت 694 هـ) القاهرة, مط. القدسي, 1356 هـ.
14. سنن الترمذي (ت 279 هـ). القاهرة, المطبعة المصرية, 1931م.
15. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ت 656هـ). القاهرة, المطبعة الميمنية, 1329هـ.
16. صحيح البخاري (ت 256 هـ). شرح الكرماني. القاهرة, المطبعة المصرية, 1932 م.
17. صحيح مسلم (ت 261 هـ). القاهرة. مط. محمد علي صبيح, 1334 هـ.
18. الغدير في الكتاب والسنة والأدب. للاميني. طهران. مط. حيدري. 1372 هـ.
19. فقه اللغة. د. عبده الراجحي. بيروت. دار النهضة العربية, 1972م.
20. الكشاف. للزمخشري (ت 538 هـ). تح. عبدالرزاق المهدي. ط2.بيروت, دار احياء التراث العربي: (1421هـ - 2001 م).
21. المدخل إلى عالم اللغة. د. رمضان عبدالتواب. ط2. القاهرة, مكتبة الخانجي, 1985م.
22. مروج الذهب. للمسعودي (ت 346 هـ). تح. محمد محيي الدين عبدالحميد. القاهرة, م. السعادة, 1948 م.
23. مسند الإمام احمد بن حنبل. (ت 241 هـ). القاهرة, المطبعة الخيرية, 1306 هـ.
24. معجم المصطلحات البلاغية وتطورها. د. احمد مطلوب. بغداد. مط. المجمع العلمي العراقي,1406 هـ - 1986 م.
25. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. لابن الجوزي (ت 597 هـ) بغداد, الدار الوطنية, 1990م.
الهوامش
[1] _ ديوان دعبل بن علي الخزاعي . جمع وتحقيق عبدالصاحب الدجيلي . ط2 . بيروت , دار الكتاب اللبناني , 1972م ./146 .
[2] _ سورة هود / 114 .
[3] _ سورة الرَّعد / 22 .
[4] _ الديوان / 146 – 147 .
[5] _ الديوان / 186 .
[6] _ الديوان / 195 .
[7] _ الديوان / 195 - 196 .
[8] _ الديوان / 198 .
[9] _ سورة الطور / 21 .
[10] _الديوان / 237 .
[11] _ الديوان /247 .
[12] _ ولغرض الاستزادة , أنظر أيضاً: مروج الذهب للمسعودي (ت346هـ) – 3/252 , والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم – لابن الجوزي (ت 597 هـ) – 7/7 , وجواهر العقدين في فضل الشرفين – للسمهودي (ت911 هـ) – ج 2/443 .
[13] _ الديوان / 262.
[14] _ الديوان / 288.
[15] _ الديوان / 289.
[16] _ الديوان / 289.
[17] _ الديوان / 289.
[18] _ الديوان / 296.
[19] _ الديوان / 303 .
[20] _ الديوان / 307.
[21] _ الديوان / 147 – 148.
[22] _ التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح لابن المبارك. ج2/92, صحيح البخاري 5/129, وصحيح مسلم 2/360, وسنن الترمذي 5/304, و مسند الإمام احمد 3/50.
[23]_ انظر أيضاً: سورة طه / 29-30.
[24]_ انظر: تاريخ دمشق – لابن عساكر – ج2/86, وأسباب النزول – للواحدي - /115, والغدير – للاميني 1/26 -, ومسند الإمام احمد 5/32, وصحيح الترمذي 5/297. وغيرها... وهنالك نص لغدير خم. انظر: الديوان / 319.
[25]_ الديوان / 172.
[26]_ الديوان / 173 – 174.
[27]_ سورة المائدة /55.
[28]_ انظر: أسباب النزول – للواحدي / 148, وتفسير الطبري – 6/288 – 289, والكشاف للزمخشري 1/682, وتفسير ابن كثير 2/71, وتفسير الفخر الرازي 12/26.
[29]_ الديوان / 306.
[30]_ الديوان / 272. والقصة مثبتة في: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى – للطبري / 85 وخصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. للنسائي (ت 303هـ) /30.
[31]_ الديوان / 285.
[32]_ ذخائر العقبى – الطبري / 91. والحديث مروي عن أبي سعيد الخدري.
[33]_ شرح نهج البلاغة. لابن أبي الحديد . 1/67.
[34]_ الديوان / 314 – 315.
[35]_ الديوان / 150 – 151.
[36]_ الديوان / 225- 226.
[37]_ الديوان / 187.
[38]_ الديوان / 149.
[39]_ الديوان / 185.
[40]_ الديوان / 235 – 236.
[41]_ الديوان / 288.
[42]_ الديوان / 289 – 290.
[43]_ الديوان / 124 – 145.
[44]_ الديوان 58 – 65.
[45]_ الديوان / 127.
[46]_ الديوان / 133.
[47]_ ألاغاني., لأبي الفرج الاصفهاني. جـ 18/42.
[48]_ لغرض الاستزادة. انظر أفكار دي سوسير @ يسبرسن, حول اللغة: في فقه اللغة. د. عبدة الراجحي /61.
[49]_ انظر: المدخل إلى علم اللغة. د. رمضان عبدالتواب /187.
[50]_ لغرض الاستزادة, انظر: الترادف في اللغة. حاكم مالك الزيادي.
[51]_ معجم الصطلحات البلاغية وتطورها. جـ 1/ 236.