البنيات الأسلوبية للكناية في الرسائل المشرقية الفنية إبّان القرن الثامن للهجرة
الكناية هي من عناصر العدول الدلالي الذي يلجأ إليه الأديب للتوسّع في كلامه والانزياح به عن الخطاب المباشر وبهذا يكسب النص أدبيته من خلال كسر العلاقة النمطية بين الدال والمدلول.
والكناية بنية محايدة بين الحقيقة والمجاز، لأن المعنيين الحقيقي والمجازي مطروحان في السياق، وقابلان للقصدية، ومن هنا عُرِفَت الكناية، بأنّها ((أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجئ إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ إليه ويجعله دليلا عليه))
والكناية من المهمينات الأسلوبية التي تبرز جانبا من الدلالة في النص مما يستدعي ايلاءها عناية كبيرة من خلال استثمار الإمكانات التي توفها آليات التعبير الظاهري المُصَرّح به على سطح النص لغرض الإحالة إلى الكشف عن المكنون الداخلي للنص.
وقد شكَّلَت الكناية عن الموصوف سمة أسلوبية بارزة في رسم الصور في تلك الرسائل المشرقية الفنية.
Abstract
(Stylistic structures of metaphor in Eastern messages during the eighth century art for Migration)
A semantic component of the reverse , which resorted to the writer for expansion in his shift from direct discourse and thus earns text its poetic tools the of the break stereotypes relationship between the signifier and the signified And metonymy structure neutral between fact and metaphor , because the concerned real and figuratively are found in context, hence known as metonymy , as ((that wants the speaker to prove the meaning of meanings do not remind it verbally Thread it in the language, but he comes to the meaning is the apotheosis and smacking in the presence he appoints to it and makes it sign it)). The metaphor is one of stylistic tools that stand aside from the significance in the text, which calls given great care by investing potential mechanisms which give the virtual unauthorized expression on the surface of the text for the purpose of referral to the internal disclosure of Webmasters of the text. Have formed a metaphor for the prescribed stylistic feature prominently in drawing pictures in those messages oriental art.
تُعدّ الكناية من الأساليب البيانية والمهيمنات الأسلوبية التي يلجأ إليها الأديب لرسم صوره وتأدية معانيه، إذ يقوم بعملية تركيب لغوي ينتقل خلالها المعنى إلى أحد لوازمه، وما يترتب عليه فيذكره عن طريق العدول عن إفادة المعنى المراد مباشرة إلى إفادته عن طريق لازم من لوازمه، لذا فالكناية ـــ من منظور البلاغيين ـــ هي: ((أن يريد المتكلّم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيُومئ به إليه ويجعله دليلاً عليه))([1]).
وبنية الكناية بنية محايدة بين الحقيقة والمجاز ؛ لأنّ المعنيين الحقيقي والمجازي مطروحان في السياق، وقابلان للقصدية، سواء أكانت علاقة اللزوم هنا (عرفية) أم (عقلية)([2]).
فالكناية دالّ على مدلولين مختلفين:مدلول حقيقي، ومدلول مجازي وكلا المدلولين مرادان، فالنصّ هو الدال، والمعنى الدلالي هو مدلول النصّ، وهذا لا يعني أن الدال يختلف عن المدلول في الكناية، فالدال يحمل معنيين أحدهما قريب والآخر بعيد، والمعنى البعيد هو المقصود في نفس المتكلّم، وبالتالي فالصورة الكنائية تقوم على الدلالة المباشرة الحقيقية التي يصل المتلقي من خلالها إلى (معنى المعنى)، عبر((استقصاء الجزئيات الدلالية التي ترشح عن البناء الكنائي،وعدم الاكتفاء بالمعنى المجرد الذي يختفي وراء البناء اللفظي))([3]).
ومن هنا يمكن إدراك الطبيعة الانزياحية للكناية ؛ أنها عدول عن إفادة المعنى المراد مباشرة، إلى إفادته عن طريق لازم من لوازمه، وينبغي على المتلقي أن يقوم بحركة عكسية ينتقل خلالها من المعنى الحرفي (المذكور) إلى المعنى المراد (المتروك)، وهذا ما ذهب إليه السكاكي (ت626هـ) في تعريفه للكناية، إذ قال: ((هي ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر ما يلزمه لينتقل من المذكور إلى المتروك))([4]).
ويمكن توضيح هذه الآلية من خلال المخطّط الآتي للكناية المشهورة (كثير الرماد):
الكرم كثرة إيقاد النار كثرة الرماد
الباث المستوى العادي (غير المنزاح) المستوى الفني (المنزاح) المتلقي
يمكن القول أن الكناية بنية ثنائية الإنتاج، إذ ((تكون في مواجهة إنتاج صياغي له إنتاج دلالي موازٍ له تماماً بحكم المواضعة، ولكن يتمّ تجاوزه بالنظر في المستوى العميق لحركة الذهن التي تمتلك قدرة الربط بين اللوازم والملزومات، فإذا لم يتحقّق هذا التجاوز فإن المنتج الصياغي يظلّ في دائرة الحقيقة، ويلاحظ أن عملية التجاوز للمستوى السطحي مرتبطة أساساً بعملية (القصد) مع الاحتفاظ بالمعنى الموازي بحق الحضور التقديري ؛ لأنّ تغيبــــه تماماً يعني الانتقال من بنيـــة الكنايــة إلى بنيـــة المجاز عمومـــاً...))([5]).
وتجدر الإشارة إلى أن الكناية إجراء أسلوبي ناجع يبرز جانباً من الدلالة في النصّ مما يستدعي إيلاءها عناية كبيرة، من خلال استثمار الإمكانات التي توفرها آليات التعبير الظاهري المصرّح به على سطح النصّ لغرض الإحالة إلى الكشف عن الداخل المكنون للنصّ.
وقد شكّل هذا الأسلوب ملمحاً بارزاً في الرسائل المشرقية الفنية في القرن الثامن للهجرة، فمن الصور الكنائية التي تمثّلت في رسائلهم الديوانية، ما كتبه شهاب الدين بن محمود الحلبي من نسخة تقليد بنيابة السلطنة بحلب للأمير أستدمر([6]):
((لما كان الجنابُ العالي هو الذي عانقَ الملكَ الأعزَّ نجادُه، واللَّيثَ الذي لم يزلْ في سبيل اللهِ إغارتُه وإنجادُهُ،...، والزعيمَ الذي حَمَتْ مهابتُه السَّواحلَ فخاف البحرُ وهو العدُوُّ الأزرقُ، من بأسِهِ الأحمرِ، على بني الأصفرِ، والمُقدَّمَ الذي كم ضاقتْ بسرايا شيعتِه الفجَاج، وكم أشرقتْ نُجومُ أسنَّتِه من أُفق النَّصر في ظُلَمِ العَجَاجِ،وكم حَمَى العَذبَ الفُراتَ على البُعد بسيوفِهِ وهي مجاورةٌ للملح الأُجاج !!،...))([7]).
تتحدد الصور الكنائية في النصّ عبر حضور الدوال (العدوّ الأزرق) (بأسه الأحمر)، (بني الأصفر)، إذ كنَّى الكاتب عن شجاعة الممدوح وبأسه وإقدامه بكنايات ذات الإيحاء الرمزي الموجود في اللون، فكنَّى عن البحر بـ(العدوّ الأزرق) ؛ لأنّه كان حائلاً بينه وبين عدوه الأساس (بني الأصفر) هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان خائفاً من أن يفقد زرقة لونه بسبب بأس الممدوح الأحمر، لما يمتاز به هذا اللون من ((الإثارة والفعل القوي والحرب والقتال))([8]) الذي سيوقعه ببني الأصفر كناية عن عدوّه (الروم)، ثمّ عدل الكاتب إلى أسلوب (الاستفهام الكنائي) في الدوال (كم ضاقت بسرايا شيعته الفجاج) و (كم أشرقت نجوم أسنته من أفق النصر في ظلم العجاج) و (كم حمى العذب الفرات على البُعد بسيوفه وهي مجاورة للملح الأُجاج)، إذ حاول عبر هذه الدوال الكنائية إقرار حقيقة ذلك الممدوح وشجاعته، واقتداره واستعداده للحرب ضدَّ الأعداء، حتى يكون أهلاً لذلك التقليد.
لقد عملت هذه الكنايات على الاستحواذ على ذهن المتلقي وشدّه لاستحضار التداعيات المترتبة على هذا الانزياح الكنائي للدوال.
ويمكن تمثيل هذه الدوال الكنائية في النصِّ عبر المخططات الآتية:
الدال الأوّل
الدوال الكنائية العدوّ الأزرق (العدوّ الأوّل)
المدلول الأوّل
البحر ولونه الأزرق
المدلول الثاني
أصبح عدوّاً للممدوح بسبب خوفه من أن يتغيّر لونه
الأزرق إلى الأحمر بسبب شجاعة الممدوح وقتاله مع عدوّه الروم
الدال بأسه الأحمر
المدلول الأوّل إشارة إلى القوة والشجاعة والحرب
المدلول الثاني كناية عن شجاعة الممدوح وبأسه
الدال بني الأصفر (العدوّ الثاني)
المدلول الأوّل اللون الأصفر
المدلول الثاني كناية عن عدوهم (الروم)
العدو الأوّل البحر الأزرق
الممدوح
العدوّ الثاني العدو الأصفر
البحر الأزرق الخوف من
البأس الأحمر = طغيان اللون الأحمر على النتيجة
اللون الأزرق والأصفر النصر في المعركة
العدو الأصفر الخوف من
ومن أمثلة ذلك ما كتبه المقرّ الشهابي بن فضل الله العمري وهي نسخة تقليد بنيابة السلطنة بالوجه القلبي، إذ جاء فيها:
((فإنه لا يستقيمُ نجاحُ الأمورِ، ويُستدامُ صلاحُ الجمهورِ، إلا بتفقدِ أحوالِ ولاتِهم، وتعهُّد سلوكِ الرعايا مع رعاتِهم، وردِّ مجموعِ كُلِّ عملٍ إلى مَنْ لا يَبِيتُ طَرْفُه في مصالحِهِم مملوءاً من الوسنِ، ولا يقرّ له في التنقلِ في مهماتِهم جَوادٌ في رسنِ، ولا تهدأ سيوفُهُ في الأغمادِ ما برقتْ بارقةُ فتنِ، ولا يشربُ الماءَ إلاّ ممزوجاً بدمٍ، ولا يبيتُ إلا على دمنِ،... قد أمتدَّ حتى كادَ لا ينتهي إلى آخرِ، ولا يلتهي بما يكنفِه من برٍّ مُقفر وبحرٍ زاخر، قد جاور بالأوديةِ العميقةِ الحوتَ في الماءِ وجاوره في السّمـاءِ برفعة الجبالِ...))([9]).
يقوم النصّ في بنيته الكنائية على سلسلة من الدوال لتشكّل نسيجاً بنائياً واحداً يبلور علاقة القائد برعاياه، وهذا ما تتأسس عليه البنية العميقة للنصِّ عبر المكنّى عنه، إذ كنّى الكاتب عن يقظة هذا القائد وانتباهه وحذره بأنه(لا يبيتُ طرفه مملوءاً من الوسن في مصالحهم)، وكنّى عن حسن قيادته للرعــية وتنقله الدؤوب بينهم لتفقّد مصالحهم بأنه (رسن جواده لا يقرّ ولا يثبت)، وكنّى عن استعداده وتهيؤه لاقتناص وقطع دابر الفتن بأنَّ سيوفه لا تنام في أغمادها، وكنّى عن شجاعته وأخذه بثأره ودربته وخبرته وإحاطته بالأمور صغيرها وكبيرها وبعيدها وقريبها، فهو يقوى على مواجهة أصعب الظروف بشجاعة واقتدار في قوله (جاور الأودية العميقة الحوت في الماء، وجاوره في السماء برفعة الجبال).
في النصِّ المتقدم بؤرة كنائية أساسية هي حرص القائد ويقظته وحذره واهتمامه برعاياه وهي صفات لازمة للدوال في البناء الكنائي،وهنا تبرز وظيفة الكناية أسلوبيّاً تكمن في تحليل الصورة إلى عنصرين بغية الإخفاء، فيستفز هذا الخفاء المتلقي فيؤلف بين العنصرين ليصل إلى المعنى الأصلي المقصود([10]).
ويمكن توضيح ذلك الأمر عبر المخططات الآتية:
المخطط الأوّل (الكناية الأولى)
الدال لا يبيت طرفه في مصالحهم مملوءاً من الوسن
المدلول الأوّل ساهراً حذراً متيقظاً
المدلول الثاني لا ينام غافلاً عن مصالح رعاياه
المخطط الثاني: (الكناية الثانية)
الدال لا يقرّ في التنقل في مهماتهم جواد في رسن
المدلول الأوّل لا يثبت رسن جواده لكثرة تنقله
المدلول الثاني متنقلاً دؤوباً على تفقد أحوال رعاياه
المخطط الثالث: (الكناية الثالثة)
الدال لا تهدأ سيوفه في الأغماد ما برقت بارقة فتن
المدلول الأوّل سيوفه لا تنام في أغمادها
المدلول الثاني استعداده وتهيؤه لاقتناص الأعداء وقطع دابر الفتنة
ومن أسلوب جمال الدين بن نباتة الكنائي، ما نجده في رسالةٍ كتبها إلى أحد نوّاب الثغور، إذ جاء فيها:
((والمملوك يُجدِّدُ الخدمةَ بنفحاتِ سلامِهِ وثنائِه، ويصفُ ولاءً لو تجسَّمَ لاستمدتْ عينُ الشمسِ من سنائِهِ،...فيا له ربيعاً جاءَ في ربيعِ، وحاملاً في مفردِهِ الفضلَ الجميع، وداعياً بالخِصْبِ ينشدُ كلَّ ثانيةٍ اثنينَ ريحانةَ الداعي السميعِ، ومُتَغنِّياً على منصَّةِ المقياسِ عِرْسه يُجلى عليه من شباكِها السِّتْر الرفيع، وأنه أقبلَ والبلاد ُأشهى ما تكونُ للقياهُ وأشوقُ ما ترى لمباشرةِ ريِّه وريَّاه...))([11]).
تتحدد الصورة الكنائية الأولى في النصّ بالتركيب (فيا له ربيعاً جاء في ربيع)، فالتعبير الكنائي في هذا النصّ قائم على أساس ما يعتلج في دواخل الكاتب وبطريقته الخاصة وإبداعه اللغوي، فكنّى عن هيبة ذلك الشخص وكرمه والخير والعطاء الذي يعمُّ الآخرين بوجوده، كالربيع حين يحلّ فيحلّ الخير والنماء.
أما الصورة الكنائية الثانية فتحددت بالتركيب (متغنياً على منصة المقياس عِرسه، يُجلى عليه من شباكها الستر الرفيع).
فجاءت هذه الصور تنسجم ومجريات النصّ ؛ لأنها عملت على تعزيز فعل الانزياح الكنائي ودلالاته الإنتاجية التي تسعى إلى تمجيد الممدوح وتعظيمه عبر هذا التعبير الكنائي الذي غلَّفَ فضاء النصّ ؛ لغرض إثبات هذه الصفات في نفس المتلقي وذهنه فيتحسس وقعها وحضورها الفاعل.
وانمازت المناشير من الرسائل الديوانية بالأسلوب الكنائي ذي الدلالات الإيحائية، فمن ذلك نسخة منشور، كُتبَ به لأحد أمراء المماليك، من إنشاء الشريف شهاب الدين ابن القاضي عسكر، إذ كتب:
((وبعدُ، فإنَّ أحقَّ من حُلِّيَ من النَّعماءِ بأفضلِ العُقُودِ، وخُصَّ بأضفى ملابِس الإقبالِ وأصْفَى مناهل الإفضال: فاستعذَبَ من هذه الورودِ، واختالَ من هذه في أجملِ البُرُودِ، ومُنِحَ من الإقبالِ بكلِّ غاديةٍ تُخْجِل السحابَ إذ يجودُ، ونُقِلَ قَدْرُه من منزلِ عزٍّ إلى منزلِ أعزٍّ فكانَ كالشّمسِ تتنَقَّل في منازلِ الشرفِ والسّعودِ، من ظهرتْ مكارمُ سماتِهِ، واشتهرتْ محاسنُ صفاتِهِ، وطلعتْ في سماءِ العَجاجِ نُجومُ خُرْصانِه ولمعَتْ في دُجى النَّقعِ بُروق ظُباتِه...))([12]).
يسجل النصّ تحققاً كنائياً مكثّفاً يتمثّل عبر سلسلة من الدوال التي هيمنت على النصّ، فقد كنّى الكاتب عن هيبة الممدوح وعظمته وأهميته ومكانته في الدولة بأنه يتنقل من مكانٍ في السلطة إلى مكانٍ آخر بقوله: (نُقِلَ من منزل عزٍّ إلى منزل أعزّ) متكئاً على تقنية المشابهة التي وضّحتْ معنى الصورة الكنائية بقوله: (كالشمس تتنقّل في منازلِ الشرفِ والسعود)، ولما كانت طبيعة غرض الرسالة (المنشور) تتطلب ذكر صفات أمير الجند فقد كنّى عن صفاته الحسنة وأخلاقه وشجاعته التي تؤهّله لهذه المكانة بقوله(وطلعت في سماء العجاج نجومُ خرصانه، ولمعت في دُجى النقع بروق ظباته) بتعاضد الصور الاستعارية.
فتبدو الصور الكنائية بطابعها الحسّي والمعنوي كأنّها توجّه أفق المتلقي إلى استكناه مكانة الممدوح وهيبته وشجاعته وأمانته.
ويمكن توضيح ذلك بالمخطط الآتي:
نُقلَ قدره من منزلِ عزٍّ إلى منزل أعزّ (الدال)
نُقلَ من مكانة في السلطة إلى منصب أمير الجند لتوزيع الأرزاق (المدلول الأوّل)
كناية عن أمانته وصفاته الحسنة وأخلاقه وشجاعته (المدلول الثاني)
والجدير بالذكر أن مطالع الرسائل الفنية للكتّاب المشارقة لا تخلو من الصور الكنائية والتعابير المجازية، فمن أمثلة ذلك، ما كتبه ناصر الدين النشائي من نسخة توقيع بصحابة ديوان الإنشاء بالشام، لفتح الدين بن الشهيد، جاء في مطلعها في سياق مدحه لأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله :
((والذين جاهدُوا في اللهِ حقَّ جهادِهِ بالنفسِ والمالِ في الكدِّ والكدحِ، ورفَعُوا أعلامَهم المُظلّة، ونصبُوا أقلامَهم المُعدِّلة،... وكان فرسانُ الكلامِ، وأسودُ الإقدامِ، الذي طالما خسأتْ بهم كلابُ الشركِ فلم تطقْ النبحَ))([13]).
إنّ بنية النسق الكنائي تنحصر في الدالين (فرسان الكلام، أسود الإقدام)، إذ كنّى الكاتب عن فصاحتهم وبلاغتهم بـ(فرسان الكلام)، وعن شجاعتهم واقتدارهم بـ(أُسود الإقدام)، ويعاضد هذا النسق الكنائي في النصّ النسق الاستعاري في الدال (كلاب الشرك) كناية عن الكفار المتمردين، فالبنية السطحية للنصِّ بعلاقاتها التركيبية تقوم ببلورة البنيـــة العميقــة وتكشفُ عن إيحاءاتها، وذلك عبـــر قرائن تعبيريـــة تصرف المعنى الظاهـر إلى المعنى الخفي.
فهذا التوظيف الكنائي (الاستعاري)، يحمل بين طياته دفقات وشحنات إيحائية دلالية بعيدة المرامي، لشدِّ انتباه المتلقي لمعرفة الإمكانية الإيحائية التي أرادها الكاتب.
إنّ هذا الإجراء الأسلوبي لا يقتصر على رسائلهم الديوانية وإنّما انمازت بها أيضاً رسائلهم الاخوانية، ومن أمثلة ذلك ما كتبه صلاح الدين الصفدي في رسالة وصفية، يصف فيها وفاء النيل، ويبعث من خلالها تهنئة وبشرى عن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، إذ جاء فيها:
((فوجدنا النيلَ المبارك قد جعلَ الأرضَ لُجَّةً، وأرخى نقابَ تيارِه على وجْه كلِّ محجّة، وارتفعَ إلى أن جعلَ على هضبات السّحابِ مقرَّهُ، وزادَ إلى أن كادَ يمازجُ نهرَ المجرَّةِ، وبعثَ سرايا مقدماتِهِ فتحصّنتْ في كلِّ فجٍّ وفجوة،وانعطفَ حولَ أزرارِ الأهرامِ كالعروة، وشربَ دم المحلِّ، فهو تحتَ حُبابِ القلوعِ كالقهوة))([14]).
يتضح في النصّ المتقدّم أن الكاتب أراد تصوير المعنويات باستحضار الدوال المحسوسات وهذه (كناية عن صفة)، تتضح من خلال وصف النيل الذي فاض في كلّ مكان، حتى أصبحت الأرض القاحلة لُجة محيط، وعلا تيار الماء حتّى كاد أن يعانق المجرات في السماء، فكنّى الكاتب بهذه الصور الكنائية عن سروره، وبشراه، وذهاب الجدب والقحط، والبشارة بموسم خير وعطاء، وحلول الأمل مكان القنوط واليأس.
فهذه الكنايات خلقت جوّاً حركيا من خلال أسلوب الرمز الكنائي لما له من وظيفة فاعلة في الايحاء وتجسيد الفكرة، فضلاً عما يتركه من أثرٍ واضحٍ في الانفعالات والأحاسيس الإنسانية لدى المتلقي.
ومن كنايات عبد الباقي عبد المجيد اليماني ما كتبه في فصل من رسالة يصف فيها شيخوخته وكبر سنّه، إذ قال:
((واليوم قد مالَ القويمُ إلى الاعوجاجِ، وعزَّ بازي الشيبِ غرابَ الشَّعرِ الدَّاج، وقيَّد الزمنُ أقداماً، ومنعتِ الشيخوخةُ إقداماً، وصرتْ لحماً على وَضَمِ، بعد أن كنتُ ناراً على علمِ))([15]).
كنّى الكاتب في هذا النصّ عن شيخوخته عبر مجموعة من الدوال الكنائية المتمثلة بالتراكيب (مالَ القويم إلى الاعوجاج) كناية عن الانحناء والاحديداب، واحديداب الظهر وانحناؤه يعني الشيخوخة، وأشار إلى علامة أخرى بالدال (وعزّ بازي الشيب غراب الشَّعر الدّاَج) في كناية عن هيمنة الشيب على شعره الأسود، متكئاً على الانزياح الاستعاري في إسناد (الشيب) إلى الطائر (صقر البازي) في سرعته، وشعره الأسود إلى (الغراب)، فالإيحاء الرمزي الموجود في اللون يستدعي معيناً آخر عبر فاعلية الانزياح الذي يتمّ من خلال سلسلة علائقية مترابطة، ((فتغدو الصورة الكنائية في غاية التآلف لأنها نجمت عن عملية تفاعل اللون وما يحمله من بعد جمالي أسلوبي))([16]).
ويستمر الكاتب في عرض هذه الدوال الكنائية متعاضدة مع صور استعارية مكونة نسقاً كنائياً تحتشد فيه صفات ودوال ملازمة تنهض مجتمعة بتصوير (حالة الشيخوخة والكبر التي تجعل صاحبها مقيّداً بحركته) والتي ختمها بالصورة الشعرية (بعد أن كنت ناراً على علم).
ويمكن تمثيل ذلك عبر الخطاطة الآتية:
الدال
(مالَ القويم إلى الاعوجاج) الانحناء والتقوّس والاحديداب (المدلول الأوّل)
علامة الكبر والشيخوخة (المدلول الثاني)
ومن صور التعبير الكنائي التي وردت في الرسائل الفنية للكتّاب المشارقة رسالة وصفية للكتاب زين الدين الصفدي يصفُ فيها الدواة:
((وقد أرسلها مشتعلةً بالسرِّ مفارقَ رأسِها، مستعديةً على وضعِها الذي انتزعَ روحَها باستمدادِ أنفاسِها، واستحالَ عليها مع الدهرِ حتّى عكسَ النقبَ في روعِها من قرطاسِها، فهي بيضاء ُإلاّ أن السوادَ كانَ أنقى لسمائِها، وناجيةً عندها أن الفرقَ أسكنُ لروعتِها من نجاتِها، وان أملَها تسودُها يدٌ لك لا تسوّدُ إلاّ من النفسِ، وان تديلَ لها من سالبِ صبغتِها وهو الطرسُ، فيطيلُ لسانُ فمِها، وهو القلمُ يمّجُ على حواشِيه لعابَ الظلماءِ في لهواتِ الشمسِ))([17]).
إنّ الصورة الكنائية في النصّ تشكلت من مجموعة الدوال التي تصفُ تلك الأداة (القلم) التي كانت تُستعمل في دواوين الإنشاء لكتابة الرسائل إذ كنّى الكاتب عن مدى أهميتها واطلاعها على أسرار الدولة بالدال (مشتعلةً بالسرِّ)، كما انه كنَّى عن لونها حين تكون خالية من الحبر الأسود الذي يملؤها باللون الأبيض، فهي مملؤة دائماً بتلك المادة لذا كنّى عن هذه الصفة بالدال (ان الفرق أسكن لروعتها من نجاتها).
فهذه الدوال في النصّ توحي بزخم دلالي نستشعره من خلال تراكم المعنى الكنائي المستتر وراء ألفاظه، وهذا يُعدّ نوعاً من الإيماء والإشارة الذي يتوصّل إليه من خلال ثقافة الكاتب والمتلقي.
وقد أخذت الكناية مكانها الواسع عند شهاب الدين الحلبي، ومن ذلك رسالته في وصف الخيل، إذ كتب:
((ومن كُمَيْتِ نَهْدٍ([18]) كأنَّ راكِبَهُ في مَهْدٍ، عَنْدَميِّ الإهابِ([19]) شِمَأليِّ الذهابِ([20]) يَزِلُّ الغُلامُ الخِفُّ عن صَهواتِهِ، كأنَّ نَغَمَ الغريضِ وَمعبِدٍ في لَهواتِهِ قصيرِ المطَا فَسيحِ الخُطا...))([21]).
تظهر في بنية النصّ الكنائي المتقدّم خضوع الدوال فيه لعملية التوصيف إذ كنّى الكاتب فيه عن الفرس الحسن الجميل الجسم الذي يتراوح لونه بين الحُمرة والشُقرة ب(كميت نهد)، وان صاحبه يشعر بالراحة والمتعة في أثناء ركوبه كالمهد الذي يرتاح الرضيع فيه، ويستمرّ الكاتب في ذكر أوصاف فرسِه حتى وصف جلده الخارجي بقوله:(عندمي الإهاب)، وكنّى عن سرعته بأنه سريع يهبّ مع الريح في قوله (شمألي الذهاب).
إنَّ هذه الأوصاف تبين حقيقة ذلك الفرس وتعمّق النسق الكنائي الذي يقوم بدوره بخلق صورة حسيّة.
إنّ هذا اللون من الكناية أتاحَ نوعاً من التركيز على الملامح الملائمة التي تحتوي على إمكانات ترميزية عالية تترك للمتلقي فرصة التأمل.
ويمكن القول إن الأسلوب الكنائي شكّل ملمحاً أسلوبياً متميّزاً عمل على إثراء الدلالات في الرسائل الفنية للكتّاب المشارقة، مكثرين من الكنايات عن الموصوف، مع استناد الصورة الكنائية على الاستعارة أو التشبيه في بعض الأحيان، فكانت صورهم الكنائية تتصف بالخفاء مع كون الصلة بين اللازم والملزوم قريبة، بمعنى أن عميلة التحوّل الداخلي للوصول إلى المعنى المراد يتمّ على مرحلة واحدة، وكذلك عمل اللون على إثراء الكناية بمستويات متفاوتة تأخذ حظها من السياق الذي يبرّز فاعليتها في النصوص.
ثبت المصادر والمراجع
الكتب:
1-أعيان العصر وأعوان النصر،صلاح الدين الصفدي خليل بن ايبك(ت764ه)،تحقيق:فالح احمد البكور،ط2،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1424ه ــــ 2003م.
2- البلاغة العربية قراءة أخرى، محمد عبد المطلب، ط1،الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، دار نوبار للطباعة، القاهرة، 1997م.
3- البنى الأسلوبية في النصّ الشعري (دراسة تطبيقية)،د. راشد بن حمد بن هاشل الحسيني، ط1، دار الحكمة، لندن، 2004م.
4- حسن التوسّل إلى صناعة الترسّل، شهاب الدين محمود الحلبي(ت725ه) تحقيق ودراسة:اكرم عثمان يوسف،وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد سلسلة كتب التراث(86)، بغداد،1980م.
5- دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، قرأه وعلق عليه، محمد محمود شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1979 م.
6- شذرات الذهب في أخبار من ذهب،ابن العماد الحنبلي أبو الفلاح عبد الحي(ت1089ه)، إحياء التراث العربي، بيروت، د. ط.ت.
7- صبح الأعشى في صناعة الإنشا, القلقشندي احمد بن علي(ت821ه)، شرحه وعلق عليه وقابل نصوصه: محمد حسين شمس الدين،دار الكتب العلمية، بيروت،1987م.
8- لسان العرب،(لابن منظور) أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري (تـ711هـ)، ط1، دار صادر – بيروت، 2000م.
9- اللون ودلالاته في الشعر(الشعر الأردني نموذجا)،ظاهر محمد هزاع الزواهرة، ط1، دار الحامد للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2008م.
10- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، العمري شهاب الدين احمد بن فضل الله (ت 749ه)،اشرف على تحقيقه: كامل سلمان الجبوري،و مهدي النجار، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2010م.
11- مفتاح العلوم، السكاكي أبو يعقوب يوسف بن محمد بن علي(ت626 هـ)، حققه وقدم له وفهرسه:د. عبد الحميد هنداوي، ط1، دار المكتبة العلمية، بيروت،1420ه ـــ 2000م.
12- مفهوم الأدبية في التراث النقدي الى نهاية القرن الرابع، توفيق الزيدي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط2، 1987.
13- نهاية الأرب في فنون الأدب،النويري شهاب الدين احمد بن عبد الوهاب(ت 733ه)،تحقيق:د.علي بوملحم،ط1،منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، 1424هـ ــــ 2004م.
14- الوافي بالوفيات، الصفدي صلاح الدين خليل بن ايبك(ت764ه)، تحقيق: أحمد الأرناؤوط، ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2000 م.
الرسائل الجامعية:
15- خصائص الأسلوب في شعر البحتري،وسن عبد المنعم ياسين آل فليح الزبيدي،أطروحة دكتوراه، كلية الآداب،جامعة بغداد،1429ه ــــ 2008م.
المجلات:
16- البنيات الأسلوبية للكناية في شعر البهاء زهير (ت656هــ)، علي كاظم علي،مجلة القادسية، كلية التربية، مجلد 8، العدد 2، 2009م.
[1]- دلائل الإعجاز: 66.
[2]- ينظر: البنيات الأسلوبية للكناية في شعر البهاء زهير (ت656هــ)، مجلة القادسية، كلية التربية، مجلد 8، العدد (2)، 2009م: 62.
[3]- البنى الأسلوبية في النصّ الشعري (دراسة تطبيقية): 326.
[4]- مفتاح العلوم: 512.
[5]- البلاغة العربية (قراءة أخرى): 187.
[6]- هو الأمير سيف الدين، أستدمر الكرجي، ولاّه الملك الناصر محمّد بن قلاوون نيابة السلطنة بحلب بعد موت نائبها قبجق، توفي سنة 711هـ، تنظر ترجمته في: شذرات الذهب: 6 / 25، وفوات الوفيات: 12 / 143.
[7]- صبح الأعشى في صناعة الإنشا : 12 / 143.
[8]- ينظر: اللون ودلالاته في الشعر:43.
[9]- صبح الأعشى في صناعة الإنشا: 11 /427 -428.
[10]-ينظر:مفهوم الأدبية في التراث النقدي إلى نهاية القرن الرابع:122-123.
[11]- المصدر نفسه: 8 / 369.
[12]-المصدر نفسه: 13 / 184.
[13]-المصدر نفسه: 12 / 90.
[14]- أعيان العصر وأعوان النصر: 3/1582.
[15]- نهاية الأرب في فنون الأدب: 3 / 335.
[16]- ينظر: خصائص الأسلوب في شعر البحتري(أطروحة دكتوراه): 265.
[17]- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: 12 / 348.
[18]- كميت نهد:الفرس الحسن الجميل الجسم لونه ليس بأشقر ولا أدهم. ينظر لسان العرب مادة(كمت).
[19]- عندمي الإهاب: لون الجلد (لونه أحمر).ينظر لسان العرب مادة(عندم).
[20]- شمألي الذهاب: السريع الذي يهبّ مع الريح. ينظر لسان العرب مادة(شمل)
[21]- حسن التوسّل إلى صناعة الترسّل: 345.