بناء الشخصية الروائية واشكالية تحول القيم بين الريف والمدينة رواية (القمر والأسوار) أنموذجا
تناولت رواية القاص عبد الرحمن الربيعي – باسلوب فني تحليلي مشكلة عدد من العوائل الفلاحية النازحة من قرية ( ابو هاون ) الى مدينة الناصرية رغبة في العيش تحت ظروف افضل ، وهي تواجه عبر عالم المدينة المتطور ، مشخصة طبيعة تفاعلها مع مظاهر ذلك التطور.
لقد جاءت شخصيات الربيعي في روايته تلك معبرة بوعي تاريخي صادق ومستوى فني مقبول في كثير من الاحيان عن ظاهرة المزاوجة الحياتية بين عالم المدينة وعالم القرية الذي بدا متقاربا شيئا فشيئا ، وبما يكثف من مظاهر الحياة الايجابية الخيرة وانحسار المظاهر السلبية المتخلفة ، كما بدا ذلك واضحا باستلهامه التراث في جانبه الخير ، لتعميق لوحاته الفنية ، ولا سيما ما يتصل بتوظيف الطقوس الدينية.
لقد عبرت الرواية بتاكيدها على السرد القصصي عبر الوصف المتين المتماسك ، والتحليل النفسي والاجتماعي لشخصياتها المتحركة وحوارها الحيوي المتدفق عن تفاعل تلك الشخصيات مع الكثير من مزاج العصر ، باحساس متميز وعادات شخصية متفاوتة تومئ لحركة المجتمع العراقي المستمرة نحو التطور الحضاري.
المقدمة
اذا كانت الرواية قصة تدور عن الناس، والروائي يخلق شخصيات خيالية ويضعها في وضعيات درامية من اختياره، فان عليه ان يقول ماهم عليه الناس، مستثمرا فهمه للطبيعة الانسانية، بعيدا عن النقل الفوتوغرافي المباشر في تعليل السلوك والظواهر ودوافعها.
وفي ضوء ذلك تكمن قيمة العمل الفني، ويتجلى مدى تأثيره بالسمات المرحلية التي يمر بها المجتمع، متجسدا عبر محاولة الروائي التعبير عن شخصيته المستقلة، الرائدة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ذلك انه لا يملك الا ان يعبر عن تجربته الخاصة وفهمه العام للحياة – وليس الحياة كما هي عليه – فالاديب حين يتاثر بالمجتمع يتخذ لنفسه دائما موقفا فكريا من مجتمعه، قد يتفق مع قيمه او يفترق عنها، اذ لا ينتج ادبه الا في الحالة التي تستقل فيها ذاته عن هذا المجتمع، متخذة موقفا فكريا خاصا به.. فالعمل الادبي ذو المضمون الاجتماعي اذن هو الذي يضيف الى مجموعة القيم الحاصلة قيمة جديدة قد تلغيها او تعدل منها. وهنا يأتي الحديث عن اثر الادب في المجتمع، فهو محكوم بما يقدم اليه من قيم جديدة تساعد على تغيير شكله.
وفق هذا المفهوم بالذات تحددت سبل دراستنا لرواية (الربيعي) عبر ثلاثة مباحث، باعتبارها أنموذجا للرواية التسجيلية الحديثة في العراق، ولعل كتاب الرواية (الحديثة) عندنا قد أدركوا بعمق حقيقة هذا المفهوم، وتمثلوه بصدق فني، وبخاصة أولئك الذين تناولوا البيئات المحلية. ذلك ان المجتمع العراقي شهد تحولا ظاهرا في واقعه الاقتصادي اثر التحولات السياسية المتلاحقة، فانعكس ذلك بدوره – وان بشكل غير مباشر - على تطور صورة العلاقات الاجتماعية، فيه اذ بدأ القاص العراقي يسعى لفهم ابعاد التغيرات الاجتماعية المختلفة، وهو ما ساعده على إعادة تشكيل تصوره الفني والحياتي للعمل القصصي في السبعينات ([1]).
والرواية العراقية الحديثة قد تعرضت في بعض نماذجها (بكثافة شديدة ووعي متفاوت) لظاهرة التغيير المنوه به، فركزت اهتمامها الخاص على بواعثه التاريخية، مستخدمة لتحقيق ذلك الاسلوب التحليلي في تفسير التناقضات المتفجرة والمشكلات اليومية قبل الثورة وبعدها. فإذا بنا نجد ان القاص يلتقط الأحداث الحية ذات البعد التاريخي، تقوده إلى ذلك رؤيته العميقة لواقعه، مؤطرة بالوعي التاريخي والحس الفني، الذي فرضته عليه طبيعة المرحلة بحيث يمكن ذلك من استخدامها أداة فنية ناجحة تضفي على عمله الفني الصدق والأصالة وتساعده على تحقيق القدر المناسب من التوازن بين الحقائق الموضوعية والحقائق الفنية فيه ([2]). ومن هنا فقد أمكنه ذلك أيضا من تحديد المهمة الحقيقية للفن، كما تجسدت لديه بشكل او باخر، هادفة الى الكشف عن رؤية الروائي المتميزة لواقعه " ويمثل هذا الكشف في نفس الوقت دعوة ملحة للآخرين إلى المشاركة فيه، بل تبني موقف الفنان بنظرته إلى الواقع.
المبحث الأول:
لقد جاءت شخصيات هؤلاء القصصيين معبرة عن تلك الحقيقة، بوعي تاريخي صادق، استطاع القاص ان يمنحه لإبطاله عن طريق المزاوجة الفنية بين عالم المدينة وعالم القرية، الذي اخذ بالتقارب شيئا فشيئا. فالربيعي في روايته (القمر والأسوار) حاول ان يكون عند مستوى مسؤلياته الفنية والتاريخية في آن واحد، فقد عالج فيها – باسلوب فني تحليلي – مشكلة عدد من العوائل الفلاحية النازحة من قرية (ابو هاون) إلى مدينة الناصرية. رغبة في العيش تحت ظروف أفضل – وهي تواجه عبر عالم المدينة المتطور وطبيعة تفاعلها مع هذا التطور، غير انه وعلى الرغم من تركيزه على هذه الظاهرة لم يتجاهل هذا الخضم المتلاطم من التحولات الاجتماعية في ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي السريعة، التعرض لبعض الشواهد التاريخية التي تجسد حركة هذه الفئة في الريف العراقي. فالفلاح " عبد " قتل على يد الملاك (منصور الراضي).
في قرية (ابو هاون) لأنه رفض الإذعان إلى رغبة الإقطاعي المستبد (منصور) وأعوانه في الاستحواذ على جميع أراضي القرية وتشريد أصحابها الحقيقيين، علـى الرغم مـن نصائـح
(الشيخ علي) الفلاح النازح إلى المدينة (لعبد) بضرورة الهجرة، كما ظهر في حواره مع ابنه قائلا: " الحياة في القرية لم تعد تطاق، وكما طلبنا من (عبد) ان يتركها ويأتي ليعيش هنا... " ([3]) غير ان القاص هنا لم يجعل من مقتل (عبد) حادثة عارضة بل جاءت ظاهرة ايجابية لمسألة معينة، فالقرية كلها (عبد)، هذا ما عبر عنه (هاتف) لعمه مستهدفا تغيير موقف الأخير من فكرة التراجع وترك المعركة للهجرة " (عبد) ليس وحده الذي قتل، هناك عشرات الفلاحين دفنوا أحياء، الإقطاعيون يملكون حتى سجونهم يبدلون المتصرفين والقائمقامين والحكام ومديري الشرطة، ان لم يعجبهم تصرفهم " ([4]).
والقاص لم يترك هذه الظاهرة مقطوعة الأواصر عن واقعها الموضوعي، اذ حاول عبر شخصياته ان يرجع طبيعة بواعثها إلى النظام ككل. هذا ما جسده الشيخ علي لأقارب القتيل ممن حضروا مجلس الفاتحة في بيته معرضا بموقف السلطة نفسها عندما خاطبهم قائلا: " لقد فقدنا اعز شبابنا، قتله إقطاعي نذل في ساعة غضب، وكما رأيتم لم تسارع السلطة في اعتقاله أو إحالته إلى المحكمة على الأقل، بل سجلت الحادثة قضاء وقدرا... " ([5]) وهو بعد ذلك يستمر في تحليله لطبيعة ذلك النظام وارتباطه بالاستعمار، ودور الشعب في مناهضته بالتظاهرات والاضطرابات ([6]).
ولاشك في اننا نلمس مدى قدرة القاص على خلق المواقف الحية ومن ثم تطويرها بشكل يسفر فيه عن هدفه الأول في تصوير مظاهر الصراع بين شخصياته – ضمن تعدد الاصوات - ، ولعله قد أدرك بعمق ان عليه ان يوازن بين رؤيته الذاتية للواقع وبين ما يطرحه الواقع فعلا من مشاكل وتناقضات. فهاتف – عبر حواره مع عمه – اكد دور (عبد) في الريف اذ كان هو بالذات يمثل وجه العملة الآخر في المدينة. فبعد ان دخل المدرسة الليلية وزوده معلموها بالوعي السياسي والوطني ، وجد في قيامه بالدعوة إلى الهجرة المعاكسة للريف واجبا وطنيا لا يقل أهمية عن قيامه بتوزيع النشرات وكتابة الشعارات الثورية المناوئة للسلطة على جدران الطرقات.
لقد تجلى ذلك بحرصه الشديد في التوفير على تلك الطاقات الضائعة في مدينة (الناصرية) التي لم تعد تمنحهم حتى قوت يومهم، كما عبر عنها في رده على عمه (حميد) عندما أراد هذا ان ينصحه بالكف عن نشاطه السياسي الذي يشكل خطورة على مستقبله قائلا: " أتدري ياعمي انني أجد يوميا عشرات العمال البسطاء، سواعد قوية تهز الجبال لكنهم هربوا من قراهم، لم يتحملوا الظلم، يبيعون جهد يومهم مقابل ثلاثة دراهم أو أربعة في أحسن الأحوال، أتكلم معهم، استحثهم لان يعودوا إلى أرضهم حتى لا يضيعوا.... " ([7]).
لقد وفق المؤلف عندما حاول التوليف بين أساليب كل من الملاكين في الريف والسلطة الحاكمة في المدينة في إهدار حقوق الغالبية ومصادرة حرياتهم في الريف والمدينة على سواء، عبر تحالف غير نزيه، في ذات الوقت الذي استطاع فيه ان يخلق المناخ المناسب لوحدة الأهداف والأساليب بين العمال والفلاحين – هنا وهناك - في عملية المواجهة المصيرية الحادة ممثلة بالفلاح (عبد) في الريف، والعامل (هاتف) في المدينة، وبذلك يكون قد حقق بجدارة فنية بارعة توليفة لا افتعال فيها بين الحقيقة الفنية والحقيقة الموضوعية، بعد ان جعل أحداثه تتحرك عبر ميداني الريف والمدينة، على حين ظل طرفا الصراع ثابتين.
ورواية الربيعي في تناولها للأحوال الاقتصادية وتدني المستوى المعاشي للفلاح وما يتبعه من آثار سلبية على الأحوال الاجتماعية لم تقف عند رصد الواقع المتخلف فحسب بل أسهمت برؤية معاصرة بناءة، في مهمة تغيير ذلك الواقع، بعد تحليله ومتابعة افاق التطور التاريخي لصورة العلاقة الإنتاجية السائدة فيه. ولا شك في ان مراعاة الروائي للظرف التاريخي جعله يختار لهذه المهمة تقنية فنية خاصة افرغ فيها أفكاره عبر اسلوب (التداعي الفكري) موظفا لذلك عنصري الزمان والمكان في استجلاء البعد الفني لشخصياته.
فهذا (عزيز) لا يجد في موت زوجة خاله (حسنة) بسبب مرضه الذي حملته معها من الريف إلى المدينة صورة كافية لإدانة الواقع في الريف. بل يعتبرها (شهيدة) للظلم والاستغلال الطبقي عامة، حيث يتجاوز ذلك إلى المدينة التي وجدت في صدر حسنة أهلا لاستقبال دائها الأكبر بسبب الإرهاق وسوء التغذية والقلق الكبير، فماتت ولم تسعد بتحقيق حلمها بتخرج ولديها والعيش في بيت من الطابوق، مما دفع عزيز الذي كبر حقده على النظام إلى اعتماد الدراسة طريقا لإصلاح الواقع والخلاص من الظلم. فنراه يسجل عبر الراوي (كلي العلم) مواطن التخلف والاحوال السيئة قائلا " لا مستشفيات، لا علاج، لاشيء على الإطلاق، ونفس المصير ينتظر امه ووالده وخاله، وربما ينتظره هو أيضا، لولا قراعه وإصراره على الدراسة، وها هو على وشك ان يقفز إلى بغداد فيضم إلى جامعتها ويبدأ رحلته الكبرى عله يحقق أحلامه في ان يفعل شيئا من اجل وطنه وأمته " ([8]) إذن فهو لا يتراجع أمام الواقع، بل يواجه بكل السبل المتاحة في الأربعينيات، حتى وان اقتصر على الحلم. ولعل ما فعله (عزيز) في دعوته الملحة للهجرة المعاكسة دليل أكيد على انتهاج الكاتب اسلوب (التخصيص والتحليل) في عرض المشاكل ومعالجتها اذ وجد في طلب العلم سبيله الى التغيير، بله الخلاص من الباعث الاساس، متمثلا بالحكم الفاسد، وهذا ما جعلنا نعتقد بان هذه الظاهرة كان لها صدى كبير في نفس القاص، ذلك ان روايته غطت أهم جوانبها تقريبا، مستخما رؤية موضوعية (معاصرة) بعيدا عن مظاهر الانفعال والحساسية، فقد انعكست تلك (الرؤية الفنية) على بواعث هذه الظاهرة ونتائجها على حد سواء. فشخصيات الربيعي اضطرت – نتيجة للواقع الاقتصادي السيئ وما ترتب عليه من ظروف معاشية وصحية متردية – إلى ان تهجر الأرض، وان كانت موطن آبائهم وأجدادهم، آملة في حياة أفضل للمدن، يشجعها على ذلك واقع الملكية المستحكم والعلاقة الإنتاجية المستغلة، غير انها لم تجد ضالتها المنشودة في المدينة.
لقد عبرت هذه الشخصيات عن انموذجين مختلفين من الشخصيات المهاجرة. فالفلاح(حميد) ومعظم أهالي القرية هاجروا بسبب تعسف الإقطاع كما بدا في قول ابو عزيز عبر الروائي كلي العلم: " الحياة في القريـة لم تعـد تطاق كل أهلـها عافوها وتركوها لمنصور الراضي وسراكيله وأزلامه، وكـم طلبت من عبد ان يتركـها ويأتي ليعيش هنا " ([9]).
هذا ما صرح به (ابو عزيز) في حواره مع (جبار) بعد سماعه بمقتل (عبد) على يد الإقطاعي، فقد فضل (عبد) وغيره من الفلاحين ذلك المصير على الهجرة إلى المدينة على الرغم من إلحاحهم، على حين اختار الآخرون الهجرة من غير ما ضجة. وهنا تكمن براعة القاص الفنية، فهو يعرض الواقع منطلقا من تمثله لظروف المرحلة التاريخية باختياره لاحداث بذاتها، مستثمرا ملاءمة الزمان والمكان فضلا عن معطيات البيئة الاخرى، غير اننا لا نجد صعوبة في اكتشاف موقف القاص المنحاز من خلال الحوار الى القوى التي اختارت التغيير نحو الأفضل، كمـا لمسنـا ذلك في رد (هاتف) على عمه حميد عندما لامه الأخير على دعوته للفلاحين المهاجرين إلى العودة لقراهم وأراضيهم، مشفقا عليهم من مصير كمصير عبد قائلا: " عبد ليس وحده الذي قتل، هناك عشرات الفلاحين دفنوا أحياء " ([10]).
لقد برز الربيعي هنا موقف (هاتف) الصدامي مع السلطة، فضلا عن التلميح بانحيازه لقوى التغيير الثوري في الريف. وهذا ما حدانا إلى الاعتقاد بان مواقف الصمود والتصدي كما ظهرت لدى القاص كانت سمة ثابتة لشخصيات الرواية الحديثة، معبرة عن فهمها المعاصر لإحداث الماضي، فهي بما تمتلك من ايديولوجية فكرية معاصرة جعلتها تتسم في تناولها للأشياء بمبدأ الالتزام وضوابطه، مستفيدة منه في تجربتها مع الخطأ والصواب. فإذا كانت ظاهرة المعارك التقليدية في الريف قد خرجت لدى كتاب الرواية الحديثة إلى دلالات إنسانية معاصرة، فان ظاهرة الثار ذات الجذور التاريخية البعيدة والأصول العرفية الثابتة، التي عرفت تاريخيا بانها مظهر سلبي للبداوة وشاهد لغياب المدنية قد تعرضت هي الأخرى من قبل شخصيات الربيعي إلى هزات عنيفة، بفعل التطور الفكري والسياسي، أفرغها من محتواها التقليـدي الذاتي (المدمر) محاولا اقتلاع مفهومها (المتحجر) من نفوس أصحابها أنفسهم وتحويله إلى مفهوم إنساني سام تمثل في توحيد الجهود لأخذ الثار من قوى الظلم والاستغلال بمختلف أشكالها وصورها وبخاصة تلك التي أسهمت في اضطهاد الغالبية المقهورة.
لقد جسد (الربيعي) هذا التحول الخطير في رؤية الفلاحين لإبعاد هذه الظاهرة عندمـا اختار من بين شخصياته (الشيخ علي) ذا المكانة الاجتماعية العالية بين الفلاحين، نتيجة لخبرته المكتسبة بدفعه الى محاولة اقناع أبناء قريته ممن حضروا مجلس الفاتحة على روح الفلاح الصامد (عبد) بعد ان قتله الملاك الجائر (منصور الراضي) ولكن من خلال تحليل سياسي، إلى ضرورة التروي في عملية اخذ الثار من منصور، مخففا من حدة إصرارهم على التعجيل بذلك. فبعد ان أوضح لهم واقع البلد السياسي الفاسد في تلك الفترة وموقع الإقطاع البارز فيه، مستهدفا لفت أنظارهم إلى مصدر الاستغلال متمثلا بالنظام الذي خلق الاقطاع والتزم بحمايته، محاولا بذلك إسقاط نقمتهم وتوجيه حقدهم إليه، وبالتالي حثهم على الثار منه، عن طريق الثورة قائلا من خلال (الراوي كلي العلم) عبر رؤيته الموضوعية: " عندما تحين ساعة الانتقام ستنتقمون ليس من اجل عبد فقط بل من اجل كل الفلاحين الآخرين الذين قتلهم " ([11]).
ولا شك في ان القاص وفق كثيرا عندما جعل نهاية روايته مفتوحة، محملا إياها إيماءات متفائلة تشير إلى تحقيق أهدافه،مراعيا بذلك البعد التاريخي لحركة المجتمع العراقي نحو التغيير متجسدة في تعليق (كامل) على حديث امه بعد خروجه من السجن، على ما تنويه السلطة الغاشمة من إرهاب الناس وسجنهم قائلا: " انهم يريدون منا أشياء كثيرة ويجب ان نواجههم بما نريده نحن وما نسعى اليه، اننا في معركة معهم، وعلينا ان نخوضها إلى النهاية هذا ما توصلت اليه في هذه الأيام الأربعة التي أمضيتها في سجنهم.
ثم ابتسم في وجه كوثر وسألها:
- الست معي ؟
وترددت قليلا ثم أجابت بصوت ذي اختلاجة ناعمة:
- لقد قلت الحق ؟
وابتلعت ريقها لتطرد ما تبقى من صوتها من تردد وتضيف !
- كثيرا ما كان عزيز يقول لي ان بيننا وبينهم ثار.
- ((ليس ثارا واحدا، بل ثارات.)) ([12])
لقد اوحت هذه اللفتة الذكية من (كوثر) عبر الحوار الفني السلس مع كامل تأكيدا لما ذهب اليه (كامل) إلى تنامي الإحساس الرائد بظاهرة الثار المعروفة لدى الشخصيات، وتوظيف هذا الإحساس لغايات جديدة، وتحويلها من بعدها السلبي الخاص إلى إطار ايجابي عام مفعم بأشواق الإنسان، لبناء العالم الخير، على حطام النظم الاستغلالية الظالمة.
ولعل اختيار القاص النظام الحاكم بديلا من الملاك لأخذ الثار، ومن ثم اقتناع الفلاحين بذلك، كان يحمل على الرغم من ضعفه المنطقي شيئا من المبالغة المقبولة فنيا، خاصة إذا ما علمنا ان الفلاحين من قرية ابي هاون لم يصلوا –في تلك المرحلة – الى المستوى الفكري الذي يؤهلهم الى الاقتناع بهذه الفكرة من الوهلة الأولى، ذلك انها بدت وكانها تمس جوهر مثلهم. انها دعوة إلى السكوت على جرائم الإقطاع في الريف، انتظارا لما يأمله الكاتب من ثورة تطيح بالنظام في المدينة وعندها ينتقمون لكل الفلاحين، فهو يجردهم من حقهم للدفاع عن أنفسهم لا بقتله، بل وحتى من التصدي له داخل الريف، في الأقل، وبذلك يكون أمينا في تسجيل دورهم التاريخي في مقاومة الظلم داخل الريف، دون ان يترك معلقة على المقادير، او جهود الآخرين من أبناء المدينة.
المبحث الثاني:
غير ان القاص في تسجيله لصور التحول الفكري وجزئياته في الريف عبر وقائع الحدث لم يتركها مقطوعة الأواصر عن ممهداتها المادية والموضوعية في حياتهم الجديدة. فغالبا ما يتجسد في موقف بعض شخصياته من مسالة (التشبث المطلق بالقيم الروحية) السائدة في الريف العراقي وما رافق بعضها بمرور الزمن من سلبيات ناجمة عن الجهل. فعلى الرغم من ان الكاتب لم يلغ وجود هذه الظاهرة وحتى توغلها في نفوسهم – وهذا ما جعله صادقا من الناحية الفنية - غير انه ركز جل اهتمامه على الجوانب الايجابية المؤثرة من تلك الظاهرة، التي كانت تومئ بشكل او بآخر إلى نمو المواقف الرافضة لآثارها السلبية المعوقة لحركة التطور الاجتماعي، فضلا عن إماطته اللثام عن الجوانب الايجابية لتلك المعتقدات، موظفا دلالاتها الدينية والتراثية والإنسانية المشرقة لاغناء الواقع المتطور برؤية معاصرة انعكست على تربية الفلاح المهاجر (حميد) لأبنائه وتوجيههم لاكتساب المثل العالية المتمثلة بالعدالة والقوة في الحق، فجسد ذلك عبر انتشار بعض اللوحات التراثية ذات المدلول الديني، كما بدا من حديث الراوي بضمير الغائب قائلا: " جدران الغرفة زينت بصور للحسين والعباس 8 وهما يقارعان خصومهما وعلى رأسهم الشمر بن ذي الجوشن: كما ان هناك صورا اخرى لبعض المراقد المقدسة التصقت على الحصران بالعجين... وكان (حميد) يمنع أولاده من تعليق أي صورة لامرأة من تلك التي تحفل بها المجلات الملونة " ([13]).
واضح ان (القاص) عندما حاول استخدام الموروث الشعبي ذي الدلالات الدينية لاغناء تجربته القصصية كان يهدف الى ابراز الجانب الايجابي البناء من تلك المعركة التاريخية المصورة. وذلك بإصراره على تعليق الصورة المعبرة عن البطولة والشجاعة النادرة في سبيل الحق والحرية واستعادة الوجه الحقيقي للإسلام – كما عبرت عنه معركة كربلاء بين الحسين بن علي بن أبي طالب 7 وبين جيوش يزيد بن معاوية – هادفا من ذلك إلى استلهام أبنائه للمثل التي حملتها تلك الصورة المعبرة وتوظيفها بمهمات معاصرة في مقارعة الظلم والتعسف والفساد الذي درجت عليه السلطة الحاكمة في الأربعينات، في ذات الوقت الذي حرم عليهم تعليق صور النساء المنتشرة في المجلات، رغبة منه في تفادي أضرارها المتنوعة وما قد توحيه إليهم من مشاعر ذاتية موهنة تصرفهم عما يريده لهم من خلق قويم وبصيرة واعية لرؤية المستقبل السعيد لهم ولمجتمعهم، وفعلا نشا ولداه عباس وكامل نشأة دينية ووطنية – فاعلة – تحملا بسببها الاعتقال المستمر من سلطات الأمن القمعية انئـــــذ.
والربيعي – كما يبدو – لم يكتف باستلهام التراث في جانبه الايجابي لتعميق لوحاته الاجتماعية بل أفاد أيضا من الدلالة الايجابية لبعض الطقوس الدينية،... كما فعل (الشيخ علي) مع (ام ياسر)، بعد ان فقدت ابنها الوحيد، ليخفف عنها جزعها النفسي قائلا لزوجها: " سأكتب لام ياسر تعويذة، وأنصحك بان ترسلها لزيارة الحسين " ([14]).
فالقاص إذن، يهدف من خلال الراوي (كلي العلم) إلى محاولة التخفيف من وطأة المعاناة التي واجهتها جارته المنكوبة (ام ياسر) عبر معادل موضوعي، مستخدما العلاج النفسي المتمثل بالتعويذة وزيارة الحسين (المظلوم)، بغية إغراق حزنها ومصابها على ابنها بمصاب الحسين 7 في موقعة كربلاء. ولعل هذا النموذج من التوظيف الفني للطقوس، قد أفاد منه الربيعي مستخدما دلالتة الروحية والفكرية النيرة لأهداف فنية مقصودة وهذا ما بدا واضحا بجلاء من خلال توظيفة الرمزي لحادث (بناء الجسر الجديد) الذي تباينت بشأن جدواه آراء الشخصيات سلبا وإيجابا، تبعا لمستوى تقبلها لمظاهر التقدم، اذ عبرت عن ذلك (غالية) على لسان (الراوي كلي العلم) بضمير الغائب قائلا:
"وكانت غالية اكبر الفرحين بهذا التحول، وبدأت توزع النذور إلى سيد خضير وفوادة والمجاهيل وكافة الأولياء الذين تمتلئ بهم المدينة وضواحيها... وذهبت ذات يوم مع ام هاتف إلى سيد خضير حاملة طاسة من الحناء، وحنت به باب ضريحه، كما نثرت كيسا كبيرا من الحلوى وابتهلت أمام الضريح طالبة منه بجاهه عند ربه ان لا يعيد زوجها الى الخمرة مطلقا ولن تستقر في فمه قطرة واحـدة، كما اخبـرها بأنها ستزور قبرا مقدسا، قبـر الإمـام علي أو موسى الكاظـم أو..."([15]).
فالقاص لم يدع شخصياته جامدة إزاء ما تواجهه من أحداث، بل منحها حرية الحركة والنمو، مستثمرة الأبعاد الإنسانية والدينية لما تجذر في اعماق شخصياته بتجسيد ذلك التحول.
المبحث الثالث:
وعلى صعيد الموقف من المرأة الريفية، اجتهد القاص في أن يبرز الوجه المشرق لها داخل الريف بمواقف مدهشة احيانا فقد تناولت (الرواية) صورة المرأة في الريف والمدينة برؤية جديدة تتسم بالواقعية النقدية، فمتابعتها لظروف تطور أحوال المرأة الاجتماعية بأمانة تاريخية أبعدتها عن الانسياق خلف المحاولات الروائية القديمة في آجترارها للنظرة التقليدية المتوارثة التي بالغت في تضخيم مواطن التخلف والامتهان.
فعلى صعيد المشاركة الفاعلة في الأعمال الحقلية لم يدعها فريسة النظرة المتخلفة التي تجد في تلك المهمة مظهرا لانحطاط قيمة المرأة الاجتماعية، بقدر ما أظهرها وكأنها إحساس ذاتي من قبل المرأة بضرورة التعاون الغريزي (التلقائي) بغية النهوض بمتطلبات الحياة اليومية، عبر دور متميز داخل الأسرة والعائلة والقرية. وهذا اكسبها حب الآخرين وتقديرهم، فعزيز يعتبر حسنة (شهيدة) لأنها كانت منذ صباها تحمل أكياس القمح وتطحنها وتخبزها، كما ترعى الأغنام وتحلب الأبقار، وتزرع وتحصد وتقوى الحراسة في الليالي المظلمة ([16]).
وعلى صعيد العلاقات العاطفية استطاع (الربيعي) ان يرصد بوعي تاريخي كل بوادر التغير في النظرة للموروث الاجتماعي في هذا الجانب، ذلك انه سجل المواقف المتباينة لجيل الآباء في الأربعينات، متمثلة بموقفي (أبو عباس، وأبو نهله) المتباعدين، جاعلا منهما إطارا فنيا يضم بين جنباته مراحل نمو الوعي الجماعي لهذه الظاهرة الإنسانية في تلك البيئة المتميزة وفي تلك المرحلة التاريخية بالذات فهذا حميد يوبخ ابنه (عباس) – الذي أحب (نهله) – بخروجه معها خلسة، قائلا: ماذا تريد ان تفعل بابنة الناس ؟ إذا تكلمت معها كلمة واحدة سأذبحك واشرب من دمك... قسما بالله العلي العظيم سأقتلك وادخل السجن " ([17])
فموقفه هذا يشير إلى انه لا يزال متمسكا بالقيم العشائرية القديمة، على حين نجد (أبو نهلة) –الذي اختلط بمعلمي المدرسة، من خلال عمله مستخدما فيها – يعد أقل تعنتا وأكثر انفتاحا، من موقف (حميد) كما جاء على لسان ابنته (نهلة)، في مضاهاتها بين موقفة وموقف والد (عباس) عبر الحوار الدائر بينها وبين حبيبها عباس قائلا:" لم أرك منذ مدة طويلة ؟ لماذا كل هذا الخوف ؟
-والدي... ان مجرد حديثي معك يقول عنه قلة شرف واعتداء على أعراض الناس.
- لكن والدي لم يحذرني منك. وأشارت بيدها إلى بناء المدرسة الثانوية الكبيرة.
- انه هناك، وقد يرانا الآن " ([18])
لقد أكد الربيعي هنا مسالة وجود علاقة عاطفية، وان كانت تخضع لأجواء سرية ناتجة عن غلبة النزعة العشائرية، غير أنه استطاع ان يبرز لنا الخيط الرفيع من التطور الحضاري في مفهوم الاختلاط بين الجنسين بإيماءات فنية بارعة كما تجسد في موقف (أبو نهلة) فراش المدرسة، موقف اتسم بالمرونة، على الرغم من استمرار سلطة الأب وتحكمه في تزويج أبنائه، كما حدث في زواج كل من عباس ونهلة بالذات عندما اجبرا على الزواج ممن لا يحبان ([19]).
ولاشك في ان القاص قد وفق (فنيا) عندما ربط بين ظهور مثل هذا الموقف الحضاري الجريء وبين ارتباط صاحبه بالمدرسة الثانوية، واسطة التطور الاجتماعي والثقافي، بشكـل يجعله أكثر إقناعا واحتمالا، كونه يخالط مدرسيها ويتاثر بآرائهم المتفتحة للحياة الجديدة.
حتى ظاهرة الزواج القسري من ابنة العم، التي لا تزال آثارها السلبية مستحكمة في تقاليد الكثير من مناطق العراق، استطاع الكاتب ان يفرغها من محتواها العشائري القديم، عندما كان النظام الاقتصادي في الريف معاشيا (مغلقا)، فقد " ضعفت قاعدة الالتزام بالزواج من الأقارب العاصبين حيث لم يقتصر الزواج على الوحدة القرابية العاصبة فقط، بل تعداه الى الزواج من داخل القرية او من القرى المحاورة او من المدينة" ([20]).
لقد تزعزع نظام العائلة المركبة، والسكن القرابي، بعد شيوع الاقتصاد النقدي، مما ساعد على انفصال الأبناء بسكن جديد بعد الزواج، واعتمادهم على مجهودهم الفردي، فحققا بذلك نوعا من الاستقلال الاقتصادي. ولهذا وجدنا (هاتف) في روايـة (القمـر و الأسـوار) يتزوج من (نجية) ابنة (حميد) في المدينة بعد جهد كبير من (الشيخ علي) لإقناع أبناء عمومتها في القرية، فقد احتجوا قائلين له بلسان ابن عمها عبد: " ولم تزوجها من شخص غريب ؟ هل خلت قبيلتنا من الرجال " ([21])
واطرق الشيخ علي مفكرا، ثم عقب قائلا بان هناك عددا كبيرا من البنات غير متزوجات بالمقابل، فلماذا نقارن المسالة بالنسبة للأولاد فقط... واستمر في تقديم التبريرات المختلفة للزواج من غير أولاد وبنات العم.
وبعد نجاح جهود الشيخ علي في كسب موافقة (عبد)، اخبره بضرورة إقناع اخوته وأولاد عمه، ومن ثم إبلاغه بالنتيجة بعد أسبوع، ولكنه لم يجد من يعترض بعد انقضاء المدة المقررة.
لقد استطاع الروائي ان يحول تلك الظاهرة العرفية (المجحفة) – باطار فني مقبول - من مفهومها السلبي المتحجر الى ظاهرة حياتية تخضع الى ظروف الواقع ومتطلباته، سالكا في ذلك طريق المناقشة الموضوعية بين شخصياته حسب طبيعة المرحلة التي كان يمر بها الريف انذاك، وقد وفق في تجسيد شخصية (عبد) فنيا لتبني مثل هذا التغيير العرفي الجائر عبر بناء سايكولوجي فهو فلاح ثائر تشربت في نفسه مشاعر الاحساس بظلم اولي الامر، فاستنهض كل المظلومين لمناكدة الملاك الجائرين والتصدي لمكائدهم المستمرة، التي خلفت قيما جامدة ومفاهيم سيئة، طالما عانى منها مجتمعنا العراقي وكان الثمن استشهاده واستمرار الحال.
وعلى اية حال فقد عبرت الرواية بتاكيدها على السرد القصصي التقليدي، وعلى الوصف المتين المتماسك للشخصيات القصصية، ثم الرصد الاجتماعي الذي لا يستهان به عن الشيء الكثير من مزاج العصر. وسعت الى ان تكون معنية بشخصيات ذات احاسيس متميزة وعادات شخصية متفاوتة، حققت جانبا كبيرا من ابعادها الفكرية ضمن الاطار الفني العام والمقبول الذي اختاره الروائي سلفا.
[1]- فاضل ثامر: القصة والتغيير الاجتماعي: مجلة الاقلام: بغداد: العدد 2 سنة 1978.
[2]- ينظر د. عبد المحسن طه بدر: الروائي والارض، ص 29
[3]- الرواية: ص 156.
[4]- الرواية: ص 210.
[5]- الرواية: ص 158 – 159.
[6]- انظر الرواية: ص 158 – 159.
[7]- الرواية: ص 260.
[8]- انظر: الرواية: ص 256 – 257.
[9]- الرواية: ص 156.
[10]- الرواية: ص 156.
[11]- الرواية: ص 159.
[12]- الرواية: ص 334.
[13]- الرواية: ص 12.
[14]- الرواية: ص 116.
[15]- الرواية:ص 120-121.
[16]-انظر:عبد الرزاق المطلبي: الظامئون، الاشجار والريح، محمد شاكر السبع، النهر والرماد، قاسم خضير عباس:
[17]- الرواية: 170.
[18]- الرواية: ص 243.
[19]- نفسه: ص 290.
[20]- د. علاء الدين البياتي: البناء الاجتماعي والتغيير في المجتمع الريفي العراقي: بغداد: سنة 1975.
[21]- القمر والاسوار: ص 26-27.